حياة البابا يوحنا بولص الثاني في كتاب فرنسي

TT

مطلع شهر اكتوبر 2003 صدر في باريس كتاب للصحافي الفرنسي المعروف برنار لوكونت فيه يلقي اضواء جديدة على حياة البابا يوحنا بولص الثاني الذي باتت نهايته قريبة حسب المقربين منه في الفاتيكان، والذين بدأوا يهيئون انفسهم لايجاد خليفة له.

وفي الكتاب المذكور، يهتم برنار لوكونت بالحقبة التي برز فيها البابا يوحنا بولص الثاني كمناضل صلب ضد النظام الشيوعي في بلاده. كان ذلك مطع الستينات من القرن الماضي وكان يدعى فويتيلا وكان يعيش في مدينة كراكوفي، وهي اهم مدينة بعد العاصمة فرسوفيا. ولأنها كانت مدينة جد متدينة وجد محافظة فإن السلطات الشيوعية حرصت على فرض الرؤية الماركسية العادية على سكانها. وفي الضواحي العمالية الكئيبة التي كانت تحيط بها من كل جانب، منعت بناء الكنائس. لكن ذات يوم من ايام عام 1960، ظهرت في الشوارع المعروفة للمدينة مثل شارع «كارل ماركس» وشارع «الثورة »وشارع «البروليتاريا» صلبان من خشب. وأدركت السلطة الشيوعية ان ذلك يشكل بداية تحد لها. ولأنها كانت تعلم ان سكان الاحياء العمالية التي تحيط بكراكوفي هم من اصول ريفية، وبالتالي هم مرتبطون بالكنيسة ارتباطا وثيقا حسب ما يثبت ذلك التاريخ البولوني، فإنها نشرت جواسيسها واعوانها السريين في كل مكان، خصوصا في المعامل والمصانع بهدف التعرف على الذين كانوا وراء عملية نشر الصلبان الخشبية في شوارع المدينة. غير ان ذلك لم يجد نفعا. ففي ليلة عيد الميلاد 1963، جاء الى ساحة حي «بيانشيسي» العمالي كارول فويتيلا الذي يصبح في ما بعد البابا يوحنا بولص الثاني للاحتفال بتلك المناسبة امام عدد هائل من الناس. كان البرد شديدا. وكانت الامطار تتهاطل بغزارة. غير ان القداس استمر حتى النهاية. وفي خطبته شبه كارول فويتيلا ساحة «بيانشيسي» بمغارة من مغاور بيت لحم. ومنذ ذلك الوقت اصبح قداس عيد الميلاد يقام في نفس المكان وبحضور كارول فويتيلا الذي بات مشهورا لدى الأغلبية الساحقة من مكان مدينة كراكوفي خصوصا بعد ان ناصر نضال العديد من الاحياء الاخرى بهدف انشاء كنائس خاصة بها. وتحت ضغوط الفاتيكان والتي تصاعدت خلال الزيارة التي اداها ممثل البابا الى بولونيا في فبراير (شباط) 1967، قررت السلطات الشيوعية السماح بانشاء كنائس في العديد من المدن. وسعيدا بهذا التنازل، وضع كارول فويتيلا حجر الاساس لبناء كنيسة في حي «بيانشيسي» وذلك في الثامن عشر من مايو (ايار) 1969. وكان الحجر قد اهدي له من قبل الباس بولص السادس نفسه. وخلال الخطاب الذي القاه احتفاء بتلك المناسبة، شدد كارول فويتيلا على انه لا يناضل من اجل اهداف سياسية، وانما من اجل اهداف انسانية وروحية. وكان هدفه من خلال هذا الكلام هو التلميح لمن جاءوا يستمعون اليه في ذلك اليوم المشهود ان المعركة ضد النظام الشيوعي سوف تكون طويلة وبالتالي لا بد من التحلي بالصبر والثبات على المبدأ. وفي نفس الخطاب ذكر بـ «العصر البطولي للشهداء المسيحيين الاوائل» ملمحا ايضا الى ان الذين يناضلون ضد النظام الشيوعي المادي ينتسبون اليهم، وبهم يرتبطون بصلة روحية عميقة. وتضمن الخطاب عدة تلميحات اخرى تشير الى ان كارول فويتيلا سوف يمضي في نضاله ضد النظام الشيوعي حتى النهاية متجنبا المواجهات الصعبة، والمغامرات الخاسرة مسبقا.

وفي عام 1976، قررت السلطات الشيوعية بطلب من موسكو تغيير دستورها، بهدف التأكيد على الروابط «الوثيقة» بين بولونيا وبين ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. وقد استقبل المجتمع البولوني، متمثلا في مثقفيه وفي الكنيسة الكاثولويكية مشروع تعديل الدستور بغضب شديد. وفي الرسائل التي بعثوا بها الى انصارهم، عارض رجال الدين المشروع المذكور، وطالبوا باجراء انتخابات حرة، وبابطال الضغوط التي تمارس ضد النقابات وضد المزارع الخاصة. ويقول المقربون منه في تلك الفترة ان كارول فويتيلا كان وراء فكرة كتابة مثل تلك الرسائل. وربما لهذا السبب اصبح منذ ذلك الحين واحداً من الد اعداء النظام الشيوعي في بلاده. واستغل الانتفاضات العمالية التي كانت تندلع هنا وهناك بين وقت وآخر، واصبح يركز في الخطب التي كان يلقيها في الكنائس والتجمعات الدينية على المشاكل السياسية التي كانت تواجهها بلاده، منتقدا بشكل مبطن تصرفات وسياسة السلطات الشيوعية، مطالبا بحرية الرأي والصحافة، وبالمساواة امام القانون، وبتخفيف الضغوط عن الكنيسة وعن النقابات والتجمعات المهنية. وكان يردد دائما الجملة التالية: «على الدولة ان تكون في خدمة الامة البولونية وليس العكس».

اواخر السبعينات شهدت بولونيا انتفاضات طلابية وعمالية صاخبة اجبرت السلطات الشيوعية على مواجهتها بالقوة. وفي العديد من المرات، جاء طلاب وعمال الى مكتب كارول فويتيلا طالبين تدخله أو مساعدته.

وكان هو يستقبلهم بحفاوة بالغة معبرا عن تعاطفه معهم. وفي عام 1978، قام ادام ميشنيك، وهو واحد من ابرز والمع وجوه حركة المعارضة المناهضة للنظام الشيوعي بزيارته في مكتبه ليهديه نسخة من كتابه «اليسار، الكنيسة، الحوار» والذي يدعو فيه الى تأسيس جبهة وطنية ضد ما سماه بـ «النظام الشمولي» تتضمن القوى اللائكية والدينية.

ثم اصبح كارول فويتيلا البابا يوحنا بولص الثاني. وفي الثاني من شهر يونيو (حزيران) 1979، قام بزيارة الى بلاده، فاستقبله ابناء شعبه بحفاوة بالغة. وامامهم القى خطابا قال فيه: «لا احد باستطاعته ان يقصي المسيح من التاريخ». متذكرا ذلك اليوم المجيد، علق احد المثقفين المنشقين قائلاً: «وصلت الى ساحة «النصر» في فرسوفيا حيث القى البابا يوحنا بولص الثاني خطبته وادركت مثل كثيرين آخرين القوة الهائلة التي تمتلكها بلادنا. بعد الخطاب، كانت الايديولوجيا الرسمية قد تحولت الى حطام».