آفات الأمة العربية بعيون يابانية

المستعرب نوبوأكي نوتوهارا: أرى القمع داء عضالا مقيما في الوطن العربي ومنه يتولد النفاق

TT

نوبوأكي نوتوهارا مستعرب يابانيٌّ، درس اللغة العربية قبل أربعين عاماً في قسم اللغة العربية بجامعة طوكيو، وحصل على زمالة من مصر طالباً مستمعا في جامعة القاهرة، ثم زار سورية، فعاش مع بدوها الرّحَّل، واليمن، والمغرب، ولعلّه زار سواها من البلدان العربية، وإن لم ينصّ عليها.

وهو مهتمٌّ بترجمة القصة العربية إلى اليابانية; فقد ترجم لغسّان كنفاني: «عائد إلى حيفا»، وخمساً من قصصه القصيرة ولعبد الرحمن الشرقاوي: رواية «الأرض» وليوسف إدريس «أرخص ليالي»، و«الحرام»، و«العسكري الأسود»، ولحليم بركات «ستّة أيام»، وترجم لسواهم.

وعلى أنّ الاستعراب الياباني استعرابٌ حديث إذ لم يتجاوز المشتغلون به إلى اليوم أجيالاً أربعة ينتمي نوتاهارا إلى الجيل الثالث منها إلاّ أنّ الذي يلفت النظر في صاحبنا تمكّنه من اللغة العربية تمكّناً مُدهشاً بحسبك منه أن تقحّم أسوار هذه اللغة المنيعة في كتابه: «العرب وجهة نظر يابانية» فكتبه بلغة عربية فصيحة ناصعة ليس فيها ثرثرة أو زيادة، وإنّما جاءت ألفاظها على قدر معانيها، لغة يعجز أن يجاريه فيها بعضُ المثقّفين العرب.

وكتابة كتاب للعرب بلغتهم شيء لم يجرؤ عليه ـ في حدود علمي ـ حتى المستعربون الأوربيون الكبار، ونصصتُ على الأوربيّين دون سواهم; لأنّ في ذهني أن طائفة من المستعربين الهنود من أمثال عبد العزيز الميمني الراجكوتي، والدكتور السيد محمد يوسف، وعبد الله محمد بن يوسف السورتي، وسواهم قد كتبوا بالعربية فأحسنوا الكتابة.

وكتابه هذا صدر عن «منشورات الجمل» في كولن بألمانيا هذه السنة، وهو يقع في مائة وإحدى وأربعين صفحة، موزَّعة على: مقدمة، فمدخل، ثم على فصول هي: ثقافة الأنا وثقافة الآخر، وتجارب وأفكار...، والقضية الفلسطينية، وما تعلّمتُه من ثقافة البدو، وعالم إبراهيم الكوني، وعبد اللطيف اللعبي،ويوسف إدريس، فملحق، فخاتمة.

ويمكن أن أُلخّص الكتاب بجملة واحدة فأقول: إنّه انطباعات رجل يابانيّ انعقدت له صلاتٌ عميقة مع بعض العرب من مثقّفين، ومن سواهم فأذاع هذه الانطباعات. ولكنّ الكتاب ليس من كتب الرحلات; بل لعلّه أقرب إلى علم الاجتماع منه إلى الرحلة; فهو لم يقف عند تلك الصلات، وإنّما وقف عند المجتمع العربيّ، وما يعيشه من تخلّف.

والكتاب ينطلق من مفارقة، وإن شئتَ فمن مشكلة هي غنى الحضارة العربية القديمة، وفقر الحضارة العربية المعاصرة.

وعلى أنّ الكاتب اشترط على نفسه في الصفحة: 21 أن يتجنب الإدراك البعيد عن الصواب للآخر عندما يناقش وجهات نظره التي تختلف عن وجهة نظر الكاتب; ممّا يوحي بأنّه ستقيّد بمنهج وصفيّ يقدِّم فيه الأمّة العربية كما عرفها، وكما رآها إلاّ أنّه لم يستطع أن يلتزم بهذا القيد; إذ كان ينظر إلى هذا المجتمع بعيون يابانية.

وحسناً فعل; لأنّه لو التزم بالوصف المجرّد دونما موازنات لجاء كتابُه باهتاً يبعث على الملل.

بل إنّ هذه الموازنات هي التي أعطت للكتاب هذه الحيوية التي نراها فيه.

وعلى أنّ الكاتب نوتوهارا من المُعجبين بأشياء غير قليلة من سجايا العرب إلاّ أنّ هذا لم يمنعه أن يراقب عيوبهم بدقّة، وأن يشخِّص العيب الأساس الذي انجرّت عنه هذه العيوب.

وآفة آفات المجتمع العربي عنده القمع السياسيّ، والاجتماعي السائدان في حياة هذا المجتمع; لذلك نراه يقول على الصفحة: 18 «أريد أن أقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله من الخارج كأيّ أجنبيّ عاش في البلدان العربية، وقرأ الأدب العربيّ، واهتمّ بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية».

«إنّ أهمية عملي هذا ـ فيما إذا انطوى على أهميّة ـ هو أنّه رأيٌ من الخارج، وأرغب عميقاً في أن تسهم مشاركتي في الدخول إلى مستقبل أفضل».

«إنّني أجد نفسي مُضطراً لأن أضيف بلغة صريحة مباشرة أنّني أرى أنّ الحريّة هي باب الإنتاج، وباب التواصل، والحياة النبيلة; ولذلك أرى القمع داء عضالاً مقيماً في الوطن العربيّ...». وإذ يضع يده على الداء يبدأ في تشخيص نتائجه، فمن هذه النتائج: الخوف.

ويسوق مثلاً رائعا على الخوف هو قوله على الصفحة: 29ـ30 فيقول: «مرة كنت أستمع إلى حوار مع طالب مصريّ تخرّج في قسم اللغة اليابانية في جامعة القاهرة. ذلك الشاب جاء إلى اليابان وهو يتحدّث عن تجربته ومشاهداته، تحدث عن المواصلات في طوكيو، وعن تنظيمها، ودقّة مواعيدها، وقارن بينها وبين المواصلات في مصر. عندئذ قال معلِّقاً: لا بد أن نتعلّم من اليابان، لا بدّ أن نُغيِّر كلّ نظامنا. فجأة قاطعه المذيع قائلاً: الكلام عن تغيير النظام غير مسموح به...».

ومثلٌ آخر هو أن زار متحف تدمر، ولم يخبره أحدٌ أنّ في تدمر سجناً هو من أشهر سجون سورية.

ويترتّب على الخوف النفاق، وازدواج الشخصية فمن وجوه هذا النفاق كما جاء على: 31 أنّ «الفلاحين لا يحبون الشرطة، وهذا أمرمفهوم، ...ولكنّ ما هو غير مفهوم هو الاحترام الكاذب الذي يُظهره أولئك الفلاحون لرجال الشرطة، والكرم الباذخ في المآدب التي يقيمونها لهم...».

ومن وجوهه أن ورد على جامعة طوكيو ـ كما يقول المؤلِّف على: 55 ـ مدرِّس مصري كان» لاهياً إلى أقصى الحدود، ومنغمساً في الملذات انغماساً لا يعرف الارتواء، وكان يعلن صراحة عن مذهبه في اللذة...»، ولكن المؤلّف وجد هذا اللاهي الذي لا يرتوي شخصاً آخر حين زاره في بيته بالقاهرة.

ولعلّ ما هو أخطر من النفاق ما يزرعه القمع الذي تمارسه السلطة في نفوس الناس من عدم الشعور بالمسؤولية، ويلتقط الأستاذ نوتوهارا مثلاً صارخاً على ذلك فيقول على:32 وهو في طريقه إلى زيارة صديق يقول: «عندما وصلتُ للحيّ الذي يسكنه فاجأتني القاذورات، وفضلات الطعام، وكافة أشكال النفايات، وأكياس الزبالة، كانت منشورة بعشوائية على الأرض،والشارع والزوايا...وصلتُ إلى البناية التي يسكن فيها ذلك الصديق، المدخل كان قذراً، والدرج أيضاً، ولكن لدهشتي فقد وجدتُ عالَماً آخر خلف باب صديقي. كان البيتُ نظيفاً للغاية، وكان مُرتَّباً، وأنيقاً، ومُريحاً. لقد فهمتُ أنّ كلّ ما يخص الملكية العامة يُعامله الناس كأنّه عدوّ فينتقمون منه، ولذلك نجد المقاعد في الحدائق العامّة مُكسَّرة، أو مخلوعة، ونجد معظم مصابيح الشوارع مُحطَّمة، كما أنّ دورات المياة قذرة بصورة لا توصف، وحتى المباني الحكومية فقد لحق بها كلّ أنواع التخريب الممكنة...».

وإذ فسَّر ذ الكاتب هذه الظاهرة عزاها إلى الانتقام من السلطة القامعة دون أن يفكِّر المواطن المقموع بأنّه يُخرِّب ممتلكاته هو لا ممتلكات السلطة.

ويستعرض بعد ذلك ظاهرة الرشوة، والسرقة التي عاناها مرّتين في مصر وحدها، ولم تقف هذه السرقة على سرقة الأجانب وحدهم وإنّما تعدّتهم في بعض الأحيان ـ كما في: 41 ـ إلى سرقة آثار بعض البلاد العربية نفسها، وهنالك أشياء أخرى يستعرضها.

ومن الأشياء الطريفة التي يتحدّث عنها على الصفحة: 38 مخاطبة الحاكم العربي أبناء شعبه بـ«أبنائي وبناتي» فيرى أنّ في هذه الصيغة استغلالاً بشعاً لقداسة الأُبوّة التي يُقرّها «الدينُ، والأعراف، والأوضاع الاجتماعية التقليدية».

ومن هذه الروح الأبوية يأتي تأبيد الحاكم كمثل ما يرد في بعض الشعارات السياسية العربية فالعرب المعاصرون ـ كما جاء على الصفحة:50 ـ «يضيفون صفة الخلود حتى لرؤسائهم مثل: الزعيم الخالد، زعيمنا إلى الأبد، رئيسنا إلى الأبد، وهكذا».

بل لعله يكون من المضحك المُبكي أن تنتقل صفة الخلود إلى رؤساء الأحزاب فيكون «السيد خالد بكداش رئيساً مطلقاً للحزب الشيوعي السوري، منذ شبابه حتى وفاته،وبعد رحيله احتلت زوجتُه منصب زعامة الحزب، كما أنّ ابنه عضو في المكتب السياسيّ، ولنا أن نفترض أنّه سيرثُ السيّدة الوالدة بعد عمر طويل إن شاء الله».

وعلى الرغم من صحة الملاحظة كنتُ أتمنّى على المؤلِّف أن لو قرن هذه الحال إلى حال الحزب الشيوعي الكوري الشماليّ لنرى إن كانت الظاهرة عربيّةً أم شيئاً آخر، ولكنّه لم يفعل.

ويتغلغل القمعُ في شرائح المجتمع مصداقاً لقول المثل العربيّ العباسيّ «الناس على دين الملك» فنجد حتى بعض الأطفال العرب يمارسون القمع، يقول نوتوهارا في: 39ـ40: «... كنتُ أجلس في بيت العُمدة في ريف مصر، وكنّا نرى الشارع مباشرة، ولقد شاهدتُ يومها طفلاً يلف خيطاً على عنق عصفور صغير ويجرّه وراءه، والعصفور يرفرف على التراب. كان الطفلُ وكأنه يجر حماراً أو كلباً، وكان الناس يمرون بجانب الطفل دون أن يقولوا له شيئاً! إذن كان المنظر طبيعياً بالنسبة لهم; طفل يتسلى بلعبة! لقد فهمتُ الأمر وما شابهه على النحو التالي: ضعيف تحت سيطرة قويّ، والناس يقبلون سلوك المسيطِر القويّ، ويرضخون له... وبالنسبة لي فإنّني أتساءل: إذا سمح المجتمع بهذا المنظر فإلى أين سيصل؟».

وإذ بلغت عدوى القمع إلى الأطفال فإنّ من اللافت للنظر أن يُسهم في تكريسها طائفةٌ من المثقّفين العرب، ولاسيما الشعراء منهم; فعلى أنّنا نعرف أنّ من جوهر الشعر إشاعة قيم الجمال، والعدل، والحرية، والإبداع إلاّ أنّنا نجده عند بعض الشعراء العرب على الضدّ من ذلك تماماً حتى لكأن عقارب الساعة الشعرية عند نفرٍ من الشعراء قد توقّفت عند القرن التاسع الميلادي لا تريد أن تتزحزح عنه، حتى ولو سيقت بالعصا، والإشفى كما يُساق أيّ حمار.

يقول المؤلف على الصفحة: 53" نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم، كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة وكأنه نجمٌ سينمائيٌّ أو مطرب ذائع الصيت. باختصار نحن لا نفهم علاقة الكتّاب العرب بحكوماتهم. عندنا ننتظر من الكاتب أن يساعدنا ويعلّمنا، وأن يوضِّح لنا مستقبلنا، ولا يخطر على بال أنّ كاتباً قد يمدح الحاكم; فكيف إذا عرفنا أنّه مدح الرئيس أنو السادات...، ومدح الملك الحسن...، والرئيس حافظ الأسد...، والملك حسين...، والرئيس صدام حسين...! نحن لا نفهم كيف يمكن لشاعر كبير أن يمدح أولئك القادة في آن واحد. ربَّما نفهم أنّه أُعجِبَ بأحدهم فمدحه، ولكن أن يمدح قادة يختلفون في أساليب قياداتهم إلى حدّ التناقض فإنّه يعني استعداده لمديح من يدفع له نقوداً...».

ولقد قلتُ: إنّ لغة نوتوهارا «عربية فصيحة ناصعة»، وأقول الآن إنّ هذه النصاعة لم تعصمها من الوقوع في أخطاء نحوية يسيرة جدّاً تكاد لا تُعدّ مأخذاً على رجل تعلّم العربية، فيا ليت أخطاء وزراء الثقافة العرب في خطاب قصير من خُطبة\هم المكتوبة المشكولة وليس في كتاب بعدد أخطاء هذا المُستعرب الطُّلَعَة.

وأذكر أنّنا استمعنا في مهرجان المتنبي الذي انعقد ببغداد سنة: 1977 إلى خطاب وزير الثقافة العراقي يومئذٍ كريم شنتاف الذي افتتح به المهرجان فصرنا نُحصي له ما يرد فيه من صواب لغويّ; لأنّ إحصاء الأخطاء كان من قبيل المُعجزات التي لا يجترحها حتّى مجمع.

فمن أخطاء المؤلّف قوله على الصفحة: 22 «عندما يحصل صراع بين طرفين الفلسطينيون والصهاينة». على أنّه يمكن أن نتأوّل له وجها للصواب بتقدير: «هما».

وخطأ ثانٍ هو قوله على الصفحة: 61 «نحن اليابانيون نراقب...» والصواب: نحن اليابانيّين نراقب، لأنّ لفظ «اليابانيين» منصوبٌ على الاختصاص.

وخطأ ثالث هو قوله على الصفحة72: «إنّ اعتبار الإنسان في النهاية وجود...». والصواب: «... وجوداً»; لأنّ المصدر إذا أُضيف يعمل عمل فعله.

هذا ما أحصيتُه من أخطاء الكتاب، وهي أخطاء ـ كما قلتُ ـ يسيرة جدّاً، لم أكن أريد الحديث عنها; فقد تحدّثت عن الكتاب أريد من وراء حديثي أن يشاركني القراء إعجابي بالكتاب، وبصدقه، ودقّة ملاحظته. وبجملة واحدة أقول: إنّ الأسناذ نوتوهارا قد وضع يده على الجرح، ولزَّه بقوّة ولكن لزَّ الطبيب لا لزَّ العدوّ. إنّه كتابٌ أتمنّى أن لو قرأه شباب، وشواب العرب جميعاً.