ياسر عرفات وموهبة البقاء في زمن انقلابات الجغرافيا

باري روبن في كتابه الجديد: الزعيم الفلسطيني نموذج «الرجل العربي القوي» الذي يتعامل مع الآخرين بأسلوب التصفية أو الشراء

TT

* إن كتابة سيرة حياة شخصية ما وهي ما زالت حية ليست بالشيء السهل وكثيرا ما تخلق اشكالات. السبب هو ان اربعة آراء تتضارب في سيرة كهذه. الرأي الاول يعود الى نظرة الشخصية المتناولة في السيرة لنفسها والثاني الى نظرة اصدقاء ومؤيدي هذه الشخصية إليها والثالث يعود الى نقاد واعداء هذه الشخصية واخيرا هو رأي مؤلف السيرة بالشخصية التي يدرسها. والمشكلة تصبح أكثر تعقيدا حين يكون المؤلف قليل التعاطف، او غير متعاطف إطلاقا، مع الشخصية التي يدرسها. السؤال هو: كيف تحافظ على الموضوعية عند سرد قصة حياة رجل او امرأة لا تحب.

* هذا هو السؤال الذي واجهه باري روبن، وهو احد اكثر دارسي سياسة الشرق الاوسط دقة، في تحضيره لسيرة حياة القائد الفلسطيني ياسر عرفات. (المشاركة في التأليف هي جوديث كولب روبن).

وايضا هناك حقيقة وهي ان عرفات هو احد اكثر الشخصيات العامة سرية، التي شهدها العالم منذ حوالي نصف قرن.

ويقر روبن بهذه الحقيقة على طريقته الخاصة قائلا: «احتل ياسر عرفات دائرة الضوء العالمية اكثر من أي سياسي آخر تقريبا على الكرة الارضية، ومع ذلك يبقى شخصا غير معروف بدرجة كبيرة، واغلب الحقائق الاساسية عن خلفيته وافكاره ونشاطاته تبقى غامضة أو مختلفا عليها».

إلى ذلك يلحظ روبن: «ان سلوكه وشخصيته فريدان بالنسبة لكل قادة العالم السياسيين».

هذا الافتراض برأيي يمثل النقيصة الأساسية في كتاب روبن وهو سيرة حياة عرفات الذي يستحق القراءة فعلا.

قد يكون لدى عرفات صفات شخصية معينة كما يوضح روبن ذلك جليا. ومن الواضح ايضا ان يكون عرفات قد اختلق قصة حياته لتلائم طموحاته السياسية. فاللبس الذي يكتنف جذوره وولادته وما قيل عن نجاحه الباهر في مهنته في ادارة الاعمال في الكويت ونمط حياته التقشفي الخيالي في المنفى، كل هذا يجب ان يعتبر دعائم «مسرحية» في يد مدير انتاج مسرحي او سينمائي في مسلسل سياسي يمتد قرابة نصف قرن من الزمن.

ولكن بعد ان نبين كل هذا علينا ان نسأل: وماذا بعد؟ هل يهمنا ما اذا كان عرفات قد ولد فلسطينيا ام لا؟ هل يتغير اي شيء اذا برهنا ان تفاصيل حياة عرفات قد زورت؟ أليس هذا ما يفعله اغلب السياسيين عند صنعهم لشخصهم «بيرسونا»؟ (في نهاية المطاف فان كلمة «بيرسونا» تعني قناعا باللاتينية).

القضية الحقيقية ليست البحث عن جذورعرفات الاثنية والقومية والطبقية، انما في حقيقة وجودية عرفات، أي عرفات يكون تماما كما يفعل.

من هذه الزاوية لا يعود عرفات الشخصية الفريدة التي تكلم عنها روبن بل على العكس، فالقائد الفلسطيني يظهر «كرجل قوي» من النوع الذي كان قد سيطر على السياسة في العديد من الدول العربية منذ الخمسينات من القرن الماضي.

ما هي خصائص «الرجل القوي» العربي؟

هو وحيد، وغالبا ما يكون ذا خلفية عسكرية او شبه عسكرية، ويفهم السياسة كعالم من المؤامرات والخيانات ولهذا فانه لا يثق بأحد. ولا اصدقاء لديه وينظر إلى كل شخص على أنه عدو محتمل له. وينظر الى العنف والمال على أنهما الوسيلتان الأكثر فعالية في استلام الحكم والاستمرار فيه. الاخصام الذين يمكن شراؤهم يجب ان يُشتروا، والذين لا يمكن شراؤهم يجب تصفيتهم. القبض على زمام السلطة والبقاء فيها هما الهدف الأسمى وليسا وسيلة لتحقيق أي اهداف مجردة. «الرجل القوي» العربي غالبا ما يكون ذكيا في التكتيك وفاشلا في وضع الاستراتيجيات، وسيداً محنكاً في فن العيش يوماً بيوم ولكن يفتقد الرؤيا للغد. هو «بونابارتي» بمعنى انه يحاول ان يكون فوق الطبقات الاجتماعية وبراغماتياً بمعنى انه ليست لديه عقائد ثابتة. ويستطيع هذا الشخص ان يقلب التحالفات الداخلية والخارجية في لحظة وان يقوم بالتفافات سياسية بسرعة فائقة. ولا يحلم ابدا بالتنحي حتى بعد اسوأ نكسة سياسية او عسكرية ممكنة. (اعرف ان قائدين عربيين في القرن الماضي قررا التخلي عن منصبهما بدون اي ضغط عليهما لفعل ذلك وهما: عبد الرحمن سوار الذهب في السودان والأمين زروال في الجزائر. من الانصاف القول ان ناصر أيضا حاول الاستقالة بعد هزيمة 1967).

ان «الرجل القوي» العربي لم يوجد من العدم، انه صنع المجتمع العربي في لحظة معينة في التاريخ. في المجتمعات التي تنقصها مؤسسات الحياة السياسية تكون السلطة دائما محصورة في يد واحدة. هذا «الرجل القوي» يحاول ان يعبئ فراغ غياب البرلمانات المنتخبة والاحزاب السياسية الحقيقية واتحادات العمال والقضاء المستقل والجيش المحترف والحرية الإعلامية، فيصبح بالفعل تقمصا للدولة.

بالطبع ليست هناك دولة عند عرفات ليتقمصها ولكن عنده ثورة طبق عليها قوانين نظام «الرجل القوي».

من هذا المنظار، نجد ان عرفات ليس «الشخصية السياسية» التي يتحدث عنها روبن. فعلا انه أحد القادة العرب الأكثر نجاحا. هدفه الاساسي هو ان يبقى ويستمر في السلطة، وقد حقق ذلك بنجاح كبير. بينما كتب له الموت السياسي في مناسبات لا تحصى فانه كان دائما ينهض ليؤكد مركزه على القمة. يكفي ان نتذكر انه خلال الفترة التي كان فيها عرفات قائدا للثورة الفلسطينية تعاقب على مركز رئاسة الوزارة في اسرائيل احد عشر رئيسا، وعاصر عرفات ايضا عشرة رؤساء اميركيين من ايزنهاور الى جورج دبليو. بوش. حتى في العالم العربي نفسه يحمل عرفات رقما قياسيا في البقاء السياسي.

خصص نصف كتاب روبن تقريبا لحياة عرفات قبل ان يصيغ هذا الاخير شراكته مع اسرائيل من خلال محادثات أوسلو السرية في التسعينات من القرن الماضي. والعديد من الحوادث التي يذكرها روبن وخاصة تلك التي كان فيها عرفات وراء عمليات مذهلة ضد اسرائيل وعدة دول عربية معروفة لدرجة أنها اصبحت لا تستحق الاهتمام الخاص الذي اولاها إياه روبن.

لذا فان النصف الثاني من كتاب روبن المخصص لمرحلة ما بعد أوسلو والجهود النهائية التي قام بها الرئيس بيل كلنتون لإبرام اتفاقية سلام هو الذي يستحق القراءة بامعان.

يقدم روبن تقريرا يعتبر الأكثر تفصيلا والأفضل إعلاما من كل ما رأيت حتى الآن فيما يتعلق بالاتفاقية التي عرضها كلينتون. ويظهر روبن بوضوح انه في نهاية سنة 2000 كان هدف خلق دولة فلسطينية قابلا للتحقيق. ويلوم روبن عرفات على فشل جهود كلينتون داعما رأيه هذا بالاستشهاد بأقوال دنيس روس، الاميركي الضليع بتسهيل الامور، وعدد من مساعدي عرفات المقربين ومنهم محمود عباس (ابو مازن) ونبيل شعث وصائب عريقات.

وهنا ايضا يرتكز حكمهم على فهم خاطئ لعرفات. فهم يتجاهلون الحقيقة ان اولوية عرفات الغريزية هي بقاؤه لا خلق دولة فلسطينية. في لحظة القرار انبأته غريزته ان قبوله لعرض كلنتون ـ باراك قد يؤدي الى قيام دولة فلسطينية ولكنه قد ينهي دوره، وفي الحقيقة ينهي حياته. لذا هو اختار البقاء. ويكتب روبن: «مهما كان برنامجه وبغض النظر عما اذا كان صادقا في رغبته في السلام أم لا فإن عرفات قد اضاع فرصا هامة. بإثبات قراره بالرغبة في الحرب ـ واظهار رفضه الاستسلام امام شعبه على ما يبدو ـ كان بإمكان عرفات عندها ان يقبل خطة كلنتون او ان يقدم تنازلات في آخر لحظة ليعقد اتفاقا قبل ان يخرج باراك من السلطة. طيلة سنتي 2001 و2002 كان بإمكانه اختيار وقف اطلاق النار و«اختراق» دبلوماسي. اذا رفض شارون عرضا جديا مقرونا مع انهاء لحالة العنف فان عرفات كان ليسجل نصرا عالميا كبيرا من دون الحاجة الى أي تنازلات سياسية حقيقية».

كل من كان يتوقع من عرفات أن يلتزم بشكل لا رجوع عنه بأي موقف واضح في أية قضية مصيرية أصيب بخيبة امل على الأرجح. وهذه كانت الغلطة التي اقترفها كلينتون وايهود باراك. لقد فشلا في رؤية الاشياء من منظار استراتيجية عرفات التي رافقته مدى حياته. هناك شيء واحد اكيد: عرفات سوف لن يوقع على معاهدة سلام مع اسرائيل ابدا تحت أي ظروف كانت حتى ولو ادى رفضه هذا الى زوال القضية الفلسطينية. مع ذلك، وفي الوقت نفسه فانه سوف لن يتبع سياسة «تدمير اسرائيل» من خلال حروب وعمليات صغيرة.

عرفات هو القائد الذي يمثل خلاصة اللاحرب واللاسلم. انه يعلم ان الحرب الكاملة او السلام الكامل قد يدمرانه. الفلسطينيون يجدون قادتهم الحربيين الحقيقيين في أشخاص مثل جورج حبش ونايف حواتمه ووديع حداد وقادة السلام الحقيقيين المحتملين من امثال فيصل الحسيني وحيدر عبد الشافي. واليوم هناك عدة قادة فلسطينيين حقيقيين يمثلون الحرب او السلم ولكن عرفات ليس منهم.

لم يسبق لعرفات ان ألزم نفسه باستراتيجية معينة ان كانت سلمية او حربية، ولم ينشر الشروط التي يتبناها لعقد معاهدة سلمية مع اسرائيل. لقد شن حربا عندما كانت ضرورية لبقائه السياسي وانقلب الى السلم عندما أيقن ان الحرب قد تنهي حياته السياسية. مصلحته تقضي بان تبقى حالة اللاحرب واللاسلم اطول فترة ممكنة.

هذا ما قاله عرفات عام 1968: «نحن نؤمن ان الوسيلة الوحيدة لعودتنا الى بيوتنا وارضنا هي الصراع المسلح وإننا نؤمن بهذه النظرية بدون اي تعقيدات وبوضوح كامل. ونحن نؤمن بأن الحل السياسي يعني الاستسلام».

ولكنه في عام 1994 اطلق «نغمة» اخرى: «هناك موسم للحرب وموسم للسلم واليوم فقط الحل السياسي يحقق طموحاتنا الوطنية».

غالبا ما يصف عرفات نفسه كـ«رجل لكل الفصول». وفيما يخص بقاءه السياسي فانه على حق: فالتغيرات الموسمية لا تؤثر عليه.

من خلال التركيز على عرفات فان ارييل شارون يساعد عدوه اللدود على إبقاء حالة اللاحرب واللاسلم. في الحقيقة، ومنذ ان ركز شارون اهتمامه على عرفات فان قضية صنع السلام كادت تنحى جانبا. الكثير من الفلسطينيين من الذين تحركهم النوازع القبلية، تضافروا حول عرفات رغم معرفة اكثريتهم بنقائصه. وفكرة انشاء قيادة بديلة واستراتيجية ما بعد عرفات تعتبر بمثابة خيانة للقضية الفلسطينية.

من الواضح انه طالما بقي عرفات يقود دفة السلطة سوف لا تكون هناك عودة الى إحلال سلم ذي معنى. وهكذا تلتقي مصالح الاسرائيليين والفلسطينيين غير الراغبين في أي نوع من انواع السلم، في اطالة ولاية عرفات. تبدو قصة عرفات كما يتلوها روبن قصة فشل وخيبة امل. ولكن قراءة اخرى تظهرعرفات شخصا هادئا تماما وموجودا في المكان الذي يريده لنفسه ومرة اخرى يعطى حياة سياسية جديدة من قبل ألد اعدائه.

* ياسرعرفات ، سيرة حياة سياسية

* المؤلف: باري روبن وجوديث كولب روبن

* الناشر: اوكسفورد يونيفيرسيتي برس، 2003