البلاط الملكي العراقي في السنوات الملتهبة جرح ينزف إلى اليوم

TT

يؤرخ كتاب تغريد رشيد «البلاط الملكي العراقي في السنوات الملتهبة» (1953 ـ 1958)، الصادر عن دار صادر ـ بيروت، وجروس برس ـ طرابلس، لمرحلة من أشد المراحل تجاذباً في الشرق الاوسط. مرحلة شهدت صراعات صاخبة، وتجاذبات حادة، وتفاعلات حرجة ودقيقة بين القوى الدولية للسيطرة على الشرق الاوسط، كنتيجة لتبدل القوى الامبراطورية وفق نتائج وإفرازات الحرب العالمية الثانية، ومع صعود الاتحاد كقوة دولية، وعجز الامبراطوريات القديمة كفرنسا وبريطانيا عن استعادة زخم شبابها، وخروج اميركا من عزلتها وشروعها في التدخل في شؤون العالم.

كان الشرق الاوسط محور الصراع لسببين جوهريين اضافة لأسباب ثانوية، اولاً: لثروته النفطية بامتلاكه أكبر مخزون للنفط في العالم. ثانياً: لموقعه الجغرافي كنقطة مركزية بين القارات القديمة، وما يمكن ان يشكل من حاجز جغرافي ـ بشري بعقيدته الاسلامية دون وصول الاتحاد السوفييتي للمياه الدافئة.

المرحلة التي اختارتها المؤلفة للبحث تتميز بأنها شكلت المقدمات للمتغيرات التي شهدتها المنطقة في المراحل اللاحقة، فبحثها لا يتوقف عند تخوم عام 1958 بل يستشرف الآتي الذي لا زلنا اسرى مقدماته. ففي عقد الخمسينيات تم تأسيس الركائز، وتدعيم التوجهات، لذلك شهد هذا العقد، وكنتائج مباشرة في حينه للمتغيرات، فوضى في التوجه، وإرباك في الخيارات، طاولت الامة العربية بأسرها كان من نتائجها الانقلاب الناصري عام 1952، والانقلابات السورية المتكررة، وحرب السويس عام 1956، والازمة اللبنانية عام 1958 وتدخل الاسطول السادس الاميركي، وسقوط الحكم الملكي في العراق عام 1958، وغيرها من الاحداث التي لا زلنا ضمن دائرة تردداتها حتى اليوم.

الكتاب يبحث في خضم هذه الاحداث عن دور البلاط الملكي العراقي في هذه المرحلة. ويأخذ على عاتقه مهمة الكشف عن مراكز القرار والخيوط الناسجة لصناعة الموقف العراقي الداخلي والخارجي.

ينقسم الكتاب الى اربعة فصول، تناول الفصل الاول تشكيل البلاط الملكي، حيث ينقسم الى ثلاث دوائر اولاً: الديوان الملكي المختص بالشؤون الرسمية بين الملك والحكومة. ثانيا: رئاسة التشريفات الملكية، التي تعنى بتنظيم امر استقبال السفراء، وتهيئة الكتب وبرقيات التهاني والتعازي. ثالثاً: دائرة المرافقين التي تشرف على الأمن الشخصي للملك، وعلى واجبات حماية القصر.

بعد تحديد تشكيل البلاط الملكي انتقلت المؤلفة لدراسة اثر مؤتمر البلاط الذي عقد عام 1952، في السياسة الداخلية قبيل تتويج الملك فيصل بن غازي. كان هذا المؤتمر رداً على مذكرة تقدمت بها الاحزاب تدعو فيها للإصلاح السياسي. وقد فشل هذا المؤتر فشلاً دفع بالاحزاب الى تصعيد الاضرابات وترسيخ فعالية دورها. مما جعلها شريكة بشكل سلبي في الحكم غالباً.

اما عن علاقة الملك بولي العهد وتأثيرها في سياسة البلاط الملكي، فقد كانت علاقة غير متوازنة «فعبد الإله» خال الملك الذي لا يملك اية سلطة دستورية هو الموجه لدفة السياسة العراقية والمسيطر عليها من سنة 1939 حتى سنة 1958، فمذ نودي به وصياً على الملك عام 1939 امسك بمفاصل الدولة، فحل الاحزاب واعتقل قادتها، وألغى صلاحيات الوزراء، واتسمت علاقته بالشعب بالشدة والعنف. وبعد ان استلم الملك صلاحياته الدستورية عام 1953 استمر عبد الإله يمارس السلطة عملاً خصصت المؤلفة الفصل الثاني لتدرس علاقة الملك بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقوى السياسية. فللملك الحق المطلق في تعيين رئيس الوزراء، ويعين الوزراء بالارادة الملكية. لكن البلاط الملكي كان العنصر الضاغط والمؤثر في تشكيل الوزارات.

أما السلطة التشريعية (مجلس الاعيان والنواب) فقد كان لعبة في يد البلاط يصادق على ما يريده ويمرر القوانين التي يريدها. فالملك يعين اعضاء مجلس الاعيان، والنواب يقف على انتخابهم وزير الداخلية ومن ورائه المستشار البريطاني ورئيس الوزراء.

سمحت الحكومة بتأسيس الاحزاب السياسية، بناء على نصيحة السفارة البريطانية بعدم تجاهل الشباب المثقف، فكان اول من طبق هذه النصيحة رئيس الوزراء نوري السعيد، فشكل حزب الاتحاد الدستوري، وشكل غيره من الوزراء احزاباً كانت قوة ضغط لاعادة تكليفهم لرئاسة الحكومات، او تعيينهم وزراء، وذلك باستخدام القوى الشعبية المغررة كمطية.

تبوأت بغداد في هذه المرحلة دور المركز او المحور للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط، فعممت مفهوم «الامن المتبادل» الذي يهدف الى محاصرة الشيوعية خلف حدودها، ومنع انتشارها الى بلدان اخرى، وذلك بتقديم المساعدات المالية، واقامة قواعد واحلاف عسكرية، وتوقيع معاهدات دفاع مشترك. تم وفق هذه الرؤية ولهذه الاهداف في العام 1955 توقيع ميثاق بغداد بين العراق وتركيا بهدف معلن وهو حماية المنطقة من المد الشيوعي، تحول الميثاق بين الدولتين الى حلف بغداد بعد ان انضمت اليه باكستان وايران وبريطانيا.

وفي العام 1957، وبعد سقوط حلف بغداد، طرح الرئيس الاميركي ايزنهاور المشروع المعروف باسمه، لملء الفراغ وتضمن المشروع جائزة بقيمة 200 مليون دولار للدول التي تتصدى للشيوعية، انضمت اليه ايران، تركيا، العراق، باكستان، وكان بينها دول عربية هي لبنان والاردن وتونس، حيث اعلنت موافقتها على المشروع، لكنها عجزت عن الدخول فيه امام نقمة الشعب.

يعقد الكتاب الفصل الاخير لموقف البلاط الملكي من الازمات السياسية، فمن ازمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والتي وقف فيها العراق موقفاً مخزياً داعياً بريطانيا، في ذلك الظرف الخطير الى السعي لاسقاط الرئيس عبد الناصر، و«اذا حصل ذلك معناه تغيير في الشرق الاوسط نحو الافضل باتجاه الغرب».

وفي الكتاب فصل عن البلاط الملكي والمسألة السورية، فقد كانت بريطانيا تلوح للهاشميين بفكرة الهلال الخصيب وتحرض العراق على سورية كعثرة في وجه التاج الهاشمي. وقد شهدت هذه الفترة عدة محاولات عسكرية لتحقيق هذا الغرض، لعل اخطرها كان في العام 1957 بالتعاون مع لبنان كميل شمعون، وتركيا التي حشدت جيوشها على حدودها مع سورية لتشتيت قواها المدافعة.

اما عن علاقة البلاط الملكي العراقي بالازمة اللبنانية عام 1958، فيقول الكتاب ان البلاط كان السبب الحقيقي لهذه الازمة، إضافة الى موافقة الحكومة اللبنانية على حلف بغداد ومشروع ايزنهاور، رغم ارادة الشعب، حتى قبل ان يوافق الكونغرس الاميركي على المشروع، مما خلق ازمة ثقة بين الحكم والمعارضة، تحولت الى مواجهة مسلحة.

انبرى العراق في هذه الازمة لتقديم الدعم للرئيس اللبناني للتجديد له كضمانة لعدم انجراف لبنان في السياسة المعادية للعراق، قدم اموالاً تفندها المؤلفة، ووقف في مجلس الامن مع الرئيس شمعون، واخيراً عندما وجد الرئيس شمعون في مأزق اسرع في ارسال الاسلحة والذخائر، ولوح بارسال اللواء العشرين من الجيش العراقي للقتال المباشر، وحالت دون ذلك حسابات بريطانية استشعرت اتجاه الرياح.

كتاب تغريد رشيد يؤرخ لاشباه صدام حسين مثل عبد الاله ونوري السعيد وغيرهما، فهل كتب على العراق ان يعيش القمع والقهر على مر تاريخه، وهل المسؤول عن هذا الاستبداد الشعب العراقي ام موقع العراق المحوري وثروته النفطية؟

كتاب البلاط الملكي العراقي في السنوت الملتهبة يجيب عن ذلك بعرضه لاحداث تلك الفترة بصياغة منهجية دقيقة، وباسلوب اكاديمي موثق وموفق، وبحرفية عالية في استشفاف التاريخ والوقائع للوصول الى النتائج. ولعل تاريخنا بحاجة الى البحث المعمق لنضع يدنا على الجرح النازف باستمرار على مدى التاريخ العراقي، فالتحليق فوق التاريخ اصابنا بورم سرطاني، فانفتحنا بما لم يعد مناسباً مع المستجدات، ولن يعيدنا الى واقعنا سوى الابحاث الرصينة الجادة، التي تكشف موقعنا من التاريخ المعاصر، وهذا الكتاب منها.