الهوية التي بإمكانها الصمود هي هوية التحديث والمدنية

المنجي بوسنينة في «مدارات»: أوضاع التراث الثقافي اللامادي العربي غير مطمئنة

TT

يطرح المفكر التونسي الدكتور المنجي بوسنينة في كتابه الجديد «مدارات» اسئلة عديدة حاول من خلالها الحفر في اكثر من مدار، والتوقف عند اشكاليات تمثل لب المآزق التي يعيشها العالم العربي والاسلامي اليوم.

واللافت للانتباه في طريقة المنجي بوسنينة في المقاربة وفي المعالجة، هو الجمع بين الوعي بقيمة التراث كمكون اساسي من مكونات العقل والوجدان العربيين، اضافة الى التفتح على القيم الاخرى، لذلك فهو يؤكد على ان الخطر الاعظم على التراث عامة وعلى التراث اللامادي بصفة خاصة، هو ان نتمادى في اضفاء نوع من القدسية على كل افرازات الماضي مهما كانت قيمتها، مما قد يمنعنا من التعامل معها على اساس انها انتاج بشري لا سيما في ظروف الانهيارات الراهنة التي قد تعطي صفة سلطوية، وقد تحمل البعض على الاعتقاد بأنه يمثل الحقيقة التي لا بعدها حقيقة.

وما يكشف توازن الرؤية المقترحة من قبل المنجي بوسنينة، هي قدرة تلك الرؤية على ارضاء طرفي النزاع الفكري القائم اليوم. فهو من جهة يعترف ان القيم التي تلخصها الحداثة كمنظومة متكاملة منها العقلانية واحترام التعددية والاختلاف وحرية التعبير والمعتقد، كلها اساس لا محيد عنه للتطور والتحديث الدائمين، ويلح في نفس السياق على رفض اي تنازل يقلل من شأن القيم السالفة الذكر، خصوصا ذلك التنازل المقيت الذي يعظم الربح والمادة على حساب انسانية الانسان الرأسمال والرمزي للبشرية قاطبة.

فكيف يعرف المنجي بوسنينة التراث الثقافي اللامادي، وما هي الاخطار التي تهدد التراث الثقافي اللامادي، اضافة الى الاستراتيجية المقترحة لصيانة هذا التراث؟

يقول الدكتور المنجي بوسنينة انه على عكس مصطلح «التراث الثقافي» الذي يعني به عادة التراث المادي، اي المعالم والمواقع والتحف الاثرية والفنية، يستعمل مصطلح «التراث الثقافي اللامادي»، لتغطية جملة من الابداعات الشفوية والعادات والتقاليد التي تتميز بها المجموعات الثقافية والتي تبقى راسخة في المصير الجماعي وفي الوجدان الوطني، ولذلك يندرج مفهوم التراث ضمن ما يعبر عنه عندنا بالتراث الشعبي، وهو مصطلح اكثر شيوعا.

ويضيف بوسنينة ان مرجعياتنا عرفت التراث الشعبي بأنه يتضمن مجموعة واسعة من الفنون الشعبية والمأثورات الشعبية العربية و«الفلكلور» العربي هو كل ما صدر عن الشعب العربي من ابداع بجميع فئاته وطبقاته، على امتداد الرقعة الجغرافية للوطن العربي، وما مارسه من شعائر وطقوس ومراسم وما له من معتقدات، وما صدر عنه من عادات وتقاليد واشكال ثقافية عقلية ومادية خاصة التي تمثل تفاعله مع الكون وحكمته وابداعاته المختلفة على مر العصور، مثل: اللغة المحكية، الموسيقى، الاشعار، الاهازيج، الازجال، الرقص، الحكايات، السير، الملاحم، الامثال، الاديان، الحلي، الصناعات، التطبيب الشعبي، الحرف، العادات والتقاليد وغيرها، مما عبر به الحس الجماعي، وتفاعل بالتبادل والتداخل والالتحام والتعارض مع الثقافات الاخرى، وتواتر عبر الاجيال حتى وصل الينا.

ويلاحظ المفكر في هذا التعريف تأكيده الواضح ان التراث ليس فقط وليد الحس الجماعي، بل هو ايضا نتيجة التفاعل مع الثقافات الاخرى بفضل ما يحصل بينه وبين تلك الثقافات من التبادل والتداخل والالتحام والتعارض، اذ ان التراث الثقافي اللامادي مرآة تعكس التنوع الثقافي لدى الانسانية ولا يقتصر التفاعل على جيل دون جيل او فترة تاريخية دون فترة اخرى، بل هو متواتر عبر الاجيال وفي كل الاحقاب، وبالطبع في هذه الحقبة بالذات التي نعيشها.

وفي خصوص الاخطار التي تهدد التراث الثقافي اللامادي، فهو يقول انه لا تتوفر لدينا اليوم أية دراسة علمية شاملة وعميقة تتناول اوضاع التراث الشفوي واللامادي في الوطن العربي، على عكس التراث المادي، اي المعالم والمواقع التاريخية والاثرية، الذي افردته اليونسكو في نطاق اتفاقية التراث العالمي الطبيعي والثقافي لعام 1972، بتقرير مفصل صدر في عام 2000 وقدم صورة بينة وموضوعية لاحواله، سواء كان تراثا مسجلا في قائمة التراث العالمي او غير مسجل. ويبين بوسنينة ايضا انه اذا كانت اوضاع التراث الثقافي المادي العربي غير باعثة على الاطمئنان رغم الجهود المبذولة من قبل الدول والمنظمات الدولية فإنه في المقابل ليس لدينا ما يثبت ان حالة التراث الثقافي اللامادي افضل بكثير، بل ان المتوقع هو عكس ذلك تماما، لاسباب متعددة أولها ان التحولات العميقة التي يشهدها العالم في ظل العولمة واسلحة الاختراق الاعلامي تبدو أشد وطأة واعمق تأثيرا على التراث اللامادي منه على التراث المادي.

ويعتقد المفكر بوسنينة ان الموقف السليم كما يراه يتمثل في الحفاظ على الموروث الحضاري بصفته مرآة لواقع متغير باستمرار، لا سيما التراث الشفوي والتصويري والموسيقي والحرفي واللهجات واساليب الأدب والفكر واذواق الجمال، ثم ترك باب الاجتهاد مفتوحا و«عدم اعتبار التحديث بدعا على التراث ولكن الجمود هو البدع فيه والتحجر هو الخطر عليه».

ويرى صاحب الكتاب في خصوص مشكلة التحديث انها لا تخص التراث المادي واللامادي فحسب، بل تغني الثقافة العربية المطلوب اثراؤها بالعلم والتقنية من دون التضحية بشخصيتها حتى تبقى متفاعلة مع الثقافة الاخرى، متفتحة على العصر اخذا وعطاء ومساهمة في تقدم الحضارة الانسانية. فالشعوب، كما لا يخفى، كانت ولا تزال يأخذ بعضها عن بعض ويغني بعضها بعضا بالتبادل كما كان ذلك بالدوام من تقاليد الفكر العربي وثقافة الغد لا يمكن الا ان تكون ثقافة مولدة تستمد عناصر كثيرة من الثقافة الاخرى في القوة التي تحتفظ بسماتها الخاصة، وهو المعنى الجديد للعالمية الثقافية، التي لا تعني الثقافة الاحادية النمطية، ولكن عالمية الافكار والاسس وتنوع السمات والتعبير والوسائل. وللثقافة العربية خصائص ومثل وقيم وآفاق انسانية يكون جميعها تراثا حيا ذا ابعاد انسانية.

وفيما يتعلق بكيفية صيانة التراث الثقافي اللامادي، يرى الدكتور المنجي بوسنينة ان تراثنا الثقافي بصفة عامة، اضافة الى كونه تعبيرا عن هويتنا، هو امكان مستقبلي وقوة كامنة، وقد ينبغي ان نبعث فيها الحياة والحركة بالتحديد والربط بالعصر، وان اي تراث، مهما كان شأنه في الماضي، بحاجة دوما الى اغناء بتجديده وتطويره ليبقى حيا فاعلا.

ومن هنا توصل الباحث الى حتمية توليد صيغ ثقافية جديدة من خلال التراث الماضي الذي يطرحه العصر على الثقافة العربية، وفي هذه الصيغ الجديدة تكمن الاصالة وتكمن القدرة على الحياة الحديثة، وهي صيغ تشمل فيما تشمله اللغة، التي يجب تطويعها لاستيعاب المصطلحات والمفاهيم العلمية والتقنية المتزايدة والمستجدة باستمرار، ولأن اعادة قراءة التراث قراءة جديدة اي فهمه لا فهما سكونيا ولكن فهمه فهما حيا متوافرا، لن تتم الا بعد دراسة التراث وحفظه، فإن الضرورة تحتم علينا بذل مجهودات عديدة اولها جمع وتسجيل وتدوين مأثورات الذاكرة الشعبية، واحداث متاحف للفنون الشعبية حسب التقنيات والاساليب الحديثة، اضافة الى اصدار موسوعات متخصصة في المأثورات الشعبية مع اقامة المهرجانات والمعارض والايام المخصصة للتراث الشعبي على اختلافه واصدار مجموعات مصورة من روائع الفنون الشعبية العربية. ويضيف المنجي بوسنينة ان الملاحم العربية التي حفظت للاجيال المتعاقبة صورة حية عن الحياة العربية قبل الاسلام وبعده في مجالاتها الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، تستحق منا مزيدا من العناية، لا سيما السيرة الهلالية التي تتميز عن مثيلاتها بانها تغلغلت في اعماق الوجدان العربي من المحيط الى الخليج، والتي هي اهل لكي تحتل لدى مؤسساتنا الثقافية العربية مكانة خاصة، حتى يتم تسجيل ابياتها التسجيل الكامل والعلمي، كعمل يسجل ايام العرب وبطولاتهم وعالمهم وفكرهم وحكمتهم واخلاقهم واماكن ذاكرتهم.

وتجدر الاشارة الى ان كتاب «مدارات» للمفكر المنجي بوسنينة لم يقتصر على مدار التراث الثقافي اللامادي كصيغة ثقافية جديدة، بل طاف بعدة مدارات اخرى تتمثل في قضايا التعددية والمثاقفة وعلاقة الذات بالآخر والامن الثقافي والعولمة والاسلام والتراث الانساني ومواضيع اخرى تتصل بنفس هذه المدارات وذلك باتباع اسلوب المعالجات التي تقترح البديل وتقدم استراتيجيات التدارك والنهوض.

* مدارات

* المؤلف: د. المنجي بوسنينة

* صدر في تونس