الحيف الاجتماعي يعيش على شرعية التمييز بين المرأة والرجل

سلوى الشرفي في كتابها «الإسلام والمرأة والعنف»: لا يمكن تغيير العلاقات التقليدية خوفا من إثارة نصف المجتمع الرجولي

TT

* برز في العشرية الأخيرة بتونس جيل من المجتهدات في مجال التفكير الإسلامي يعني بصفة خاصة بالفضاء الديني الثقافي للمجتمع العربي والإسلامي. فظهرت الباحثة لطيفة الأخضر، ومؤخرا الشابة ألفة يوسف وكذلك الدكتورة سلوى الشرفي المهتمة بمواضيع ذات علاقة بالإسلام السياسي وحقوق الإنسان والمرأة والإعلام .

ولعل الخيط الجامع بين مختلف الاقتراحات الفكرية المطروحة يتصل أولا وأساسا بخصوصية التجربة التونسية والتعاطي البورقيبي مع ملف المرأة، الشيء الذي منحها موقعا خاصا وبالتالي رؤية مختلفة، وأفرز لديها فكرا له رحابته وآفاقه التي لا تشبه رحابة حفريات أخرى.

* تتساءل الباحثة سلوى الشرفي في كتابها الجديد «الإسلام والمرأة والعنف»، هل أن وضعية المرأة الدونية مرتبطة فقط بالشرعية الإسلامية، وهل يستحيل الاجتهاد لتغيير الوضع، أم أن هذه الممارسات هي نتيجة لقراءة معينة للإسلام ترتاح لها العقليات المحافظة ويفرضها الحكام المستبدون؟

وبهذا التساؤل تتضح قضية المبحوث فيها، إذ أن سلوى الشرفي سعت إلى النبش في إشكالية التمييز ضد المرأة المسلمة وتحليلها انطلاقا من مبدأ حق المرأة كإنسانة وكمواطنة، في التساوي مع الرجل مساواة كاملة، اعتمادا على ما يفرضه العقل والواقع وعلى ما تنص عليه مختلف الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بصفة عامة، وبحقوق المرأة بصفة خاصة.

لذلك فإن الباحثة ارتأت البحث في مدى مصداقية المصادر التي تعتبر شرعية، والتي على ضوئها يفند التميز الجنسي، مبرزة أن العنف والتمييز المسلطين عل المرأة المسلمة، يبرران بالاعتماد على الشرعية وبالتأكيد على أن المصادر الأساسية للشرعية تنص على عدم المساواة بين الجنسين مما يفرض على المشرع في الدول الإسلامية، الالتزام بهذه الأحكام «الإلهية» عند وضع قوانين الأحوال الشخصية.

وكأي باحثة تجدي استخدام المنهج العلمي، انطلقت الدكتورة الشرفي في رحلة بحثها بتحديد القواسم المشتركة لقوانين الأحوال الشخصية في غالب الدول الإسلامية، وذلك رغم تعدد الدول المختارة واختلافها سياسيا وفكريا وتاريخيا.

ولقد حددت الباحثة خمسة ثوابت، أولها غياب الوحدة القانونية بين الدول الإسلامية، وثانيها غياب قضاء موحد داخل الدولة الواحدة ، إضافة إلى غياب قانون مكتوب في بعض الدول أو وجود فراغ تشريعي في مواضيع أساسية، في بعض القوانين المكتوبة. كما وجدت أن قوانين الأحوال الشخصية في غالب الدول الإسلامية تعتمد سواء المكتوبة منها أو العرفية على الشرعية كمصدر أساسي، علاوة على انفراد قانون الأحوال الشخصية بالتمييز بين المواطنين على أساس الجنس مخالفا بذلك الدساتير والمبادئ العامة للقانون والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي خصوص العنصر الثابت الأخير المتمثل في انفراد قوانين الأحوال الشخصية بالتمييز الجنسي، ترى الباحثة أن القضية في الحقيقة تتعدى طبيعة القانون (وضعي/ إلهي) فهي مرتبطة بثقافة تقليدية أبوية تمت بصلة في عديد الحالات إلى الدين.

ومع الأسف فإن القانون في الدول الإسلامية، يلعب دورا في تفشي التمييز الجنسي وتكريسه، وذلك بإكساء الثقافة التقليدية صبغة شرعية.

* التأويلات الشعبية للنص الديني

* بل ان القانون يكرس أحيانا دونية المرأة حتى في الحالات التي يعترف فيها لها الدين بالمساواة، وذلك باسم العرف والعادة، بحيث يصبح العرف فوق الأحكام الإلهية. فالقانون القبلي البربري في الجزائر يحرم المرأة من الميراث كليا. وحتى في حالة الاجتهاد أو الأخذ عن مذاهب مختلفة أو عن القوانين الغربية، يكون الاختبار غالبا لصالح تفوق الرجل على المرأة. فقد أخذ القانون المصري من القانون الفرنسي القديم الأحكام المتعلقة بالخيانة الزوجية، وهي أحكام تميز بين الجنسين لصالح الرجل عكس الإسلام الذي يطبق نفس العقوبة في حالة الزنا بقطع النظر عن الجنس. وهذا دليل على أن الأمر لا يتعلق بالدين كما يروج له العديد ممن يبررون التميز ضد المرأة استنادا إلى الشرعية، وذلك سواء عن جهل أو عن سوء نية.

ومن هنا يظهر أن القانون، وبما هو انعكاس لثقافة المجتمع، ينظر إلى بعض القضايا من منظور السيادة الجنسية للذكر ويشرع لها تارة باسم الدين وأخرى باسم الشعب.

وتستنتج الدكتورة سلوى الشرفي تبعا لذلك بأن الأمر مرتبط بتقاليد مجتمع أبوي يكرس علوية الرجل على أساس تأويلات ومعتقدات شعبية للنص الديني. ذلك أن الثقافة الدينية ما هي في نهاية المطاف سوى انعكاس للثقافة الاجتماعية. فجل الديانات وإن أتت ببعض التغييرات، إلا أنها لم تجرؤ على إحداث ثورة اجتماعية، فهي تكتفي بإدخال تغيير طفيف أو تكرس ما هو موجود، ثم وبطول الزمن يلتبس الأمر في الأذهان ويسود الاعتقاد بأن الثقافة السائدة هي ثقافة دينية مقدسة لا يجوز تغييرها. ولا أدل على ذلك من أن التمييز ضد المرأة لا يختص به دين معين، فأغلب الديانات تضع المرأة في مرتبة دونية مكرسة بذلك الثقافة الأبوية السائدة قبل ظهور الديانات.

وتحلل الباحثة تفشي ظاهرة تعنيف النساء، عالميا، وتجذرها حتى في بعض المجتمعات التي تخلص من ربقة الكنسية واستندت إلى قوانين وضعية، مبرزة أن الحيف والتمييز اللذين تعاني منهما المرأة لا يستندان بالضرورة إلى ثقافة متشبعة بالمقدس، وإنما هما في النهاية انعكاس لثقافة اجتماعية أبوية أو لثقافة سياسية استبدادية موغلة في القدم.

* علاقة العقل بالوحي

* لذا فإن الحذر واجب إزاء التعميمات المتسرعة التي تحكم سلبا على الدين الإسلامي جملة وتفصيلا، اعتمادا على تأويلات نصية رديئة تعادلها في الواقع تأويلات تاريخية إيجابية لم تهيمن للأسف على العقل الإسلامي. فقد تم اختيار المفهوم الأشعري للإنسان وللعقل على مفهوم ابن رشد، أي أنه تم تفضيل التعامل مع إنسان مشلول الإرادة، على إنسان سيد نفسه وعلى عقل كفايته محدودة، عوض عقل يجول من دون قيود في ميادين المعرفة. ولقد دعت الشرفي في كتابها المعنون بـ«الإسلام والمرأة والعنف» الصادر عن منشورات «علامات» إلى عملية تجديد ديني يعيد طرح الإشكالية المتصلة بعلاقة العقل بالوحي، بهدف تحقيق توازن بين النص والواقع، مبينة أي الباحثة بأن هذه الإشكالية تمثل المدخل والمفتاح الضروريين لتغيير الثقافة الإسلامية السائدة والمعرقلة لكل تطور في مجال قضية المرأة خاصة. وترى الشرفي بأن المطلوب هو إحداث تغيير عميق في العقليات بل إحداث قطيعة مع الثقافة السائدة التي يمكن تلخيص مرتكزاتها في صيحة فزع أطلقها مثقف إسلامي رافض لمضمون المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان متسائلا باستنكار «من أين جاءت هذه الحقوق للإنسان فور ولادته؟»، مؤكدا أنه لا يمكن قبول فكرة القانون الطبيعي والبقاء مسلما، لأن مصدر حقوق الإنسان هي الشرعية الإسلامية.

لا يقوم إذن قانون الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية بدور محرك للتغيير الاجتماعي، ورغم أن القانون لا يتوانى في القيام بهذه الوظيفة في مجالات الاقتصاد والسياسة، فإن أغلبية الدول الإسلامية وضعت قوانين في هذه المجالات تخالف النصوص القرآنية الصريحة. ولأن الدكتورة سلوى الشرفي من الباحثات اللواتي يتمتعن بوعي سياسي ثاقب، فإن دراستها لقضية التمييز الجنسي لم تطرح جانبا المقاربة السياسية لهذا التمييز فتقول في هذا الصدد: «ورغم اعتقاد بعض الحكام بأن للقانون دورا هاما في تحريك الثقافة في اتجاه الواقع بل أن القانون بإمكانه أن يكون سباقا كمشروع يدفع رويدا بالثقافة نحو التغيير المراد تحقيقه، وقد أثبتت تجارب السياسة الاقتصادية ذلك / رغم كل هذا، فهؤلاء الحكام لا يجرؤون على تغيير العلاقات التقليدية داخل الأسرة والقائمة على تفوق الرجل وسيطرته الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لعدة أسباب ربما يكون أهمها خوف النظم الدكتاتورية من إثارة نصف المجتمع الرجولي الرازح تحت جور السلطة وعنفها. لذلك يظل قانون الأحوال الشخصية القانون الأكثر زجرا وقهرا في النظم الأكثر جورا وكأنه جعل ليكون متنفسا للقهر العام».

وتضيف الشرفي في نفس السياق بأن الحيف الاجتماعي يعيش على شرعية الحيف الجنسي، ذلك أن السلم الاجتماعي المكرس في دول العالم الثالث يقوم على قاعدة التفاوت في الحقوق والواجبات بين مختلف أفراد المجتمع على أساس الاعتقاد الديني والمركز الاجتماعي والأصل، فالجنس (بمعنى الذكورة والأنوثة). وإذا ما حاولنا رفع مرتبة المرأة، وهي التي تقبع في أسفل درجات السلم، فإن الميزان كله سيختل. واستبعاد المواطن باسم الدين في الأنظمة الملقبة بالإسلامية، يعادله أيضا استبعاد الرجل للمرأة عن موقع القرار، باسم الدين أيضا، فليس من مصلحة أنظمة تقيم شرعيتها على أسس دينية تقويض أسس حكمها وتجفيف المنبع الذي تكرع منه خطبها وتشرع به لاغتصاب حق المواطن في اختيار حاكمه. وتشدد الباحثة على أهمية مواصلة البحث والاجتهاد للكشف عن إمكانية النص الديني في التطور لتوسيع دائرة حقوق المرأة وخاصة ضرورة تجاوز الفوضى الفقهية التي استعرضت الشرفي بعض مظاهرها من خلال اختلاف قوانين الأحوال الشخصية في البلدان الإسلامية، رغم ادعائها الاعتماد على الشريعة الإسلامية كمصدر أوحد.

إن قارئ كتاب «الإسلام والمرأة والعنف» يلمس تمكن الباحثة من تعرية الخلفية الفكرية والثقافية لقضية التمييز الجنسي، أي أنها سعت إلى تفنيد حجج المظالم المسلطة على المرأة وذلك من خلال حجج مستوحاة من النص الديني وسياقاته. إضافة إلى أن مقاربتها السياسية للتمييز الجنسي في الفضاء الإسلامي بدت موفقة جدا، الشيء الذي منح طرحها الفكري صلابة خاصة وتمييزا عن أطروحات سابقة لم تلتفت إلى فعل الفاعل السياسي في الدول الإسلامية، وأسرار تمسكه بالإبقاء على علوية السلطة الذكورية.

* الإسلام والمرأة والعنف

* المؤلف: سلوى الشرفي

* الناشر: دار علامات ـ تونس