«بولينغ في بغداد» لنصري الصايغ رؤية سياسية بعيون الأطفال.. تلتف على الأسئلة البسيطة وتحن للإجابات العادية

TT

تصدّر كتاب «بولينغ في بغداد» للمحلل والكاتب السياسي نصري الصايغ قائمة الكتب الاكثر مبيعاً خلال «معرض الكتاب العربي والدولي» الذي اقيم في بيروت الشهر الماضي. وهذا الكتاب الصادر عن «دار رياض الريس» اراده مؤلفه تحية الى المخرج السينمائي الاميركي مايكل مور، الذي فتح عيني الكاتب عبر فيلمه «بولينغ فور كولومباين» على الاميركي المضرج بالقتل، وعرفاناً منه لمواقفه وابداعاته يصعب تصنيف هذا الكتاب، فلا يستطيع القارئ ان ينسبه الى الرواية ولا ان يضعه في خانة النصوص الحرة، ولا ان يلحقه بأدب المقالات، ولعله يحكي رؤية الكاتب السياسية وكأنها من البراءة بحيث هي اشبه باحلام الاطفال.

النص، يلتف على الاسئلة البسيطة يطرحها مثقلة بالبراءة والصبر المدوي حناناً وشوقاً للعادي من الاجوبة. ورغبة بالعادي من الوقت يلتمسه لاطفال العراق، كي يكبروا على مهل ولا تحذف المرآة من عمرهم سنوات، احلام عن المدرسة والبيت ودوار النخيل، عن الكسل والتعب والذكريات التي لم يترك لها ترف الوقت لتصبح قصائد وحنين، صادرها هواة النفط والحروب، فأصبحت مستحيلة.

النص حلم، وهو سبعة احلام بسبع ليال كان اطفال العراق فيها يأملون بالبسيط واليومي والبديهي. ويكتبون آمالهم في ذاكرتهم لندرة الورق.

في اليوم الاول حلموا اطفال العراق بنهار عادي جداً، حلموا بالنوم، بالقيام صباحاً، بغسل الوجوه، وتناول الافطار مع العائلة، الذهاب الى المدرسة لتعلم اللغات والحساب والتاريخ والجغرافيا، والعودة مساء والنوم. نهار عادي عز على اطفال العراق، فالايام العادية في العراق، رفاهية بعيدة المنال.

وفي ليل آخر، كانت السماء سريراً واسعاً من زرقة محفوفة باحلام مذهبة، حلم اطفال العراق، حلماً جميلاً مسكوناً بالحنان، رأوا اطفال اميركا ينهضون من نعاسهم، يشربون العصير، يذهبون الى المدرسة، يتعلمون ويلعبون ويغنون، ويعودون الى بيوتهم الجميلة، وسط عائلة معطرة بالحب والعطف. كم فرح اطفال العراق، لان ذلك الحلم لم يكن مستحيلاً، ولم يحسدوا احداً عليه. فلماذا نتهم بالكراهية؟ تساءل اطفال العراق، ونحن لا نقيس بؤسنا بفرح الآخرين، لا ينغصنا ان يكون اطفال اميركا سعداء. فمن حق الاطفال ان يكونوا سعداء.

في ليل ثالث، رجع اطفال العراق من نومهم، اغلقوا ستائر النعاس، والتقوا ما بين دجلة والفرات. حلم اطفال العراق ليلتها حلماً تدفق على مخيلتهم، حلماً واحداً مشابهاً يليق بالدنيا. حضر اطفال اميركا الصغار، واقاموا ساعات بعمر دهور، في ضيافة التاريخ والحضارة، تعرفوا على نينوى وبابل وبغداد، استضافهم اشور بانيبال، فتحت لهم ابواب المعرفة في مكتبته.

قرأ اطفال اميركا كتباً من سومر واكاد واشور وبابل، اقامت لهم عشتار مأدبة شبعوا بعدها الى دهر الداهرين. ثم عبروا ازمنة من الشعر والعطاء والعلم. زاروا بيت الحكمة فاستقبلهم المأمون. وعرجوا وهم يعودون الى يومهم على السياب والملائكة والبياتي والحيدري.

لكن ذلك الحلم كان مستحيلاً، فليس للعراق باب يدخل منه الاطفال. واطفال العراق حاضرون في الماضي، ملغيون في الراهن، محذوفون في المستقبل. التاريخ يعزيهم، لكنه لا يطعمهم قمحاً، ولا يعيد كرامة مسفوكة بالحاجات المذلة، ولا يرد عليهم نبلاً يحتاجون له قوتاً كبشر.

في الحلم الرابع، اقام النص الانسان العراقي والفسطيني في جثة واحدة، وفي طلقة واحدة. امسك الفرق بين الطفل العراقي الذي يملك الوقت الكافي ليمرض ويسجن ويموت في ارضه او في المنافي شوقاً الى ارضه، بينما حياة الطفل الفلسطيني معجزة صنعها الفلسطيني الذي لا يملك ترف الوقت ليمرض ويجوع ويكد في الفسحة المتروكة له بين الولادة والموت.

التقى اطفال العراق واميركا وفلسطين، في فلسطين. سمعوا دعوة يسوع «دعوا الاطفال يأتون اليّ» فلّبوا. زاروا مسجد الاقصى، كان ظل عمر في حالة الصلاة منقوشاً امام كنيسة القيامة.

لكنه كان حلماً مستحيلاً فابواب فلسطين مقفلة بالاكاذيب، والاحتلال الصهيوني يصنف اطفال فلسطين ارهابيين يهوون الانتحار، يعرضون انفسهم للبنادق فنزيحهم آسفين. واميركا تلبس اعين اسرائيل وتروج للاكاذيب وتسمي شارون رجل السلام من حقنا ان نغضب، وان يطحن الغضب كلماتنا، واجسادنا، لكننا لا نكرهكم ابداً في اليوم الخامس، فلش اطفال العراق نعاسهم على راحتهم وناموا، حلموا انهم في نيويورك، وكان الوقت بعد الصباح قليلاً، وشمس 11 سبتمبر (ايلول) ترسم في السماء دائرتها. عندما ظهرت طائرة شاذة وانتحرت في برج راق تحول الى كتلة من لهيب واستغاثات.

كابوس مخيف كسر المسافة بين النار والانهيار، توغلت المدينة في الفجيعة. سقط البرجان وسقطنا في حزن قاتل. ما هذا العالم الموبوء بالعنف؟ تفرسنا في مشاعرنا، وددنا لو نستطيع ان نفعل شيئاً، نحن الذين اعتدنا مصاحبة الالم، لنخفف عن اصدقائنا الاطفال في اميركا.

لكننا سمعنا من اميركيين سؤالاً: لماذا يكرهوننا؟ وفهمنا ان السؤال تهمة علينا للأسف كان ذلك الحلم حقيقياً، وكان السؤال التهمة حقيقياً يتردد عالياً ليجعل من العراق فدية، ومن اجساد اطفال العراق وليمة على مائدة مذبحة مقبلة وفي اليوم السادس، الاحلام تتجول في كل مكان، تبحث عن مخيلة عن اطفال العراق، فلا تجدهم. كان يوم من فحم بكل حزن الدهور. اناس يسألون ظلالهم عن دمهم. هولاكو الابيض يتدرب على تلوين دجلة والفرات بالحبر القاني والتاريخ المسكوب في دفتي آلاف الاعوام.

خر العراق مقصياً عن جسده. لكنهم فركوا عيونهم جيداً وقرروا ان يساهموا في صياغة عالم اقل بؤساً واقل فقراً واقل تمييزاً، واقل شراسة. قرروا ان يعودوا الى اوطانهم مقاومين. فالله ضد ضد القتل بلا مواربة لكنه مع المقاومين.

في اليوم السابع عادوا، ولدوا مرة ثانية، وموعودون بأن يولدوا دائماً عادوا من كل الجهات، وقرروا ان لا يموتوا ثانية، لأنهم كالافكار. قرروا ان يغسلوا هذا الكوكب كلما اتسخ.

ليس من حق احد ان يكون حراً وحده، ليس من حق احد ان يكون سعيداً وحده. ليس من حق احد ان يدعي انه شعب الله المختار، وان الشعوب الاخرى، هي اضافات للاستهلاك.

الاطفال العائدون، ليسوا الا الافكار، ليسوا الا انتم الموجودون لآلاف السنين الباقية، والوقت وقت غناء، «علي صوتك بالغناء لسه الاغاني ممكنة».

يضيف المؤلف للكتاب ملحقاً لا بد منه، يحاول ان يكون اميركياً، لكنه يجد نفسه اميركياً مضطهداً في اميركا، فهي تظلم هنا وهناك. اميركا تهددنا بالديمقراطية، وتلومنا لأننا ولدنا في العراق وفلسطين، فالحق على وجودنا الاضافي، فلولا ذلك لم تتبرع اسرائيل بقتلنا وتحريرنا من بؤسنا.

لن نطلب منكم السماح لنا بالبقاء في تاريخنا وجغرافيتنا. فنحن متسمكون بلون عيوننا، ارهابيون لأننا في فلسطين متهمون بالامل، متورطون بالتفاؤل، لنا سطوة البقاء، وبهاء الاحزان.

ولأننا في العراق لا نسكن غير جسدنا، ونقيم على تخوم دمنا، ونقبض على الحياة. نسقط لننهض، ونرتل طلقاتنا آيات. فمأساتنا في العراق وفي فلسطين كمأساة الشعوب العريقة فهي تولد وتاريخ شاهق يلف روحها، فلا تعترف بالمعجزات، ولا تقبل بالهزيمة. في شرخ انكسارها ترفض ان تولد لتموت فحسب. تبحث عن دور لتجعل من العالم اكثر عدلاً تقاوم فتتهم بالارهاب.

كتاب متعب، وكاتب متعب، لا شفاء له من حبه للانسان، الحب المرهق في زمن الحيتان والاسلحة الذكية في جمع الضحايا بأعداد غفيرة، في لحظة واحدة متعب بطفولته لأن ثمة شيئاً يقوله الكاتب بعربية فصحى، لكنك تفهمه بكل اللغات.

* المؤلف:نصري الصايغ

* الناشر: دار الريس ـ بيروت