«حكواتي» يروي تاريخا آخر للأدب الفرنسي

هل كان بلزاك الشخص الوحيد الذي أدرك عبقرية ستندال؟ هل كان الشخص الوحيد الذي لم يصبه العمى بخصوص ميزاته؟

TT

* جان دورميسون «حكواتي» من الطراز الاول، بامكانك ان تستمع اليه وهو يتحدث على شاشة التلفزيون الفرنسي ساعات وساعات دون ان تمل. انه عارف بشؤون الادب الفرنسي وشجونه. وربما كان يعيش مع شاتو بريان ومارسيل بروست اكثر مما يعيش مع معاصريه! باختصار فإن الرجل مولّه بالادب ومولع. فالادب هو حياته على الرغم من مسؤولياته الاخرى العديدة في اليونسكو، او جريدة الفيغارو، او حتى الاكاديمية الفرنسية، حيث انتخب عضوا «خالدا» منذ سنوات عديدة.

* وفي كتابه عن تاريخ الادب الفرنسي المؤلف من جزءين تجده ينتقل من كورني، الى راسين، الى موليير، الى باسكال. ومن ستندال الى الفريد دوموسيه، الى فلويد، الى بودلير، الى اندريه جيد وبول فاليري. ومن فولتير الى جان جاك روسو، الى رامبو وسان جان بيرس.. الخ. وهكذا لا تكل ولا تمل وانت تقلّب الصفحات وراء بعضها البعض وتتعرف على رأي المؤلف في كل واحد من هؤلاء الكتّاب الذين صنعوا مجد الأدب الفرنسي. قد نختلف معه وقد نتفق في الاحكام التي يطلقها على روسو مثلا او على اي كاتب آخر. ولكنك لن تخرج من الكتاب فارغ اليدين. هذا دون ان نتحدث عن المتعة: متعة القراءة ومرافقة الكاتب في بساتين الادب الفرنسي ورياضة الغناء.

يقسّم جان دورميسون تاريخ الادب الفرنسي الى اربع مراحل اساسية هي: المرحلة الكلاسيكية (اي القرن السابع عشر مع كورني وراسين وموليير)، ومرحلة التنوير (اي القرن الثامن عشر مع الفلاسفة المشهورين كديدور، وفولتير وروسو)، والمرحلة الرومانطيقية (اي القرن التاسع عشر مع فيكتور هيغو، وجيرار دورتيوفال، ولامارتين)، ثم بلزاك، وستندال وفلوبير وبقية العمالقة الذين يمثلون الانتقال من المرحلة الرومانطيقية في الادب الى المرحلة الواقعية او حتى الطبيعية لاحقا. ثم المرحلة السوريالية والقرن العشرين مع اندريه بريتون وجماعته، ثم ابولينير.. الخ. هذا دون ان ننسى جان بول سارتر الذي خيم بظله على الادب الفرنسي وليس فقط الفكر الفرنسي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كان من القلائل الذين يهتمون بالادب والفلسفة في آن معا. بهذا المعنى فإن سارتر هو أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء كما قالوا عن التوحيدي سابقا.

لكني لن اتوقف هنا عند سارتر، وانما عند اثنين من عمالقة القرن التاسع عشر هما: ستندال وبلزاك. هل نعلم بأن ستندال لم يكن معروفا في عصره على الاطلاق؟ هل نعلم بأنه عاش ومات دون ان يعرف احد من هو، اللهم إلا شخص واحد يدعى: بلزاك؟

قد يستغرب المرء كيف يمكن لكاتب في مثل هذا الحجم ان يمرّ دون ان يلمحه معاصروه، او دون ان يعرفوا عبقريته. ولكن الشيء الاصعب هو: كيف استطاع الاستمرار في الكتابة دون ان يلقى اي صدى؟ من المعروف ان كتّابنا العرب الاشاوس، او بعضا منهم على الاقل، يملأون الدنيا صراخا وعويلا، اذا لم نحتفل بهم يوميا واذا لم تذكر الجرائد اسماءهم صباح مساء.. وهم يكنسون الجرائد تكنيسا، ويركضون وراء التشريفات والاضواء اللامعة ركضا، ولا يكادون يشبعون من هذه او تلك. وكل ذلك بعد ان يكون الادب قد تخلى عنهم تماما وادار لهم ظهره (180) درجة على الاقل! اما ستندال فكان يكتب في ظل من الوحدة، والصمت المطبق. وكان يقول: لن يقرأني الناس قبل عام 1935: اي بعد مائة سنة من موته تقريبا (1783 ـ 1842)! ولكن بعد ستين سنة من ذلك التاريخ اصبح هذا الكاتب الذي احتقره معاصروه واستهزأوا به، معبود الجماهير في فرنسا. انه يهيمن على أدبنا كما لم يهيمن اي شخص آخر، كما يقول جان دورميسون.

«هناك كتَّاب يولدون بعد موتهم»، كما يقول نيتشه في عبارة شهيرة تنطبق عليه قبل غيره. وبالتالي فلا داعي للحزن اذا لم تحظ بالشهرة في عصرك، واذا طفا على السطح اولئك السطحيون الذي يتهافتون على الفتات تهافتا. رحم الله ابن رشد فلو لم يكتب الا عنوان كتابه الشهير «تهافت التهافت» لخلّد اسمه ابد الدهر.

لكن لأعد الى ستندال وبلزاك، فهذا أسلم عاقبة واجدى نفعا. كان ستندال يكره والده كرها عميقا الى درجة انه سرّ عندما قتلوه اثناء الثورة الفرنسية! كان يحب فقط أمه التي ماتت وهو صغير (ست سنوات) كما يحصل للعديد من الكتاب.

وكان يكره عمته لأنها حاولت ان تهتم به وتحل محل أمه. وكان يكره رجال الدين الذين نجحوا في جعله عدوا لدودا للكنيسة والقمع اللاهوتي. وكان يكره مدينة «غرونوبل» التي تحتفل الآن به وترفعه الى اعلى القمم.

ما الذي كان يحبه ستندال؟ الحياة، والنساء، والادب، والفشل.. وهي أشياء مترابطة عموما. كما كان يحب المغامرة، ولذلك رافق جيوش نابليون بونابرت الى شتى اصقاع الارض من ايطاليا الى روسيا.. كان ستندال ايطالي الهوى ومولعا على الاخص بمدينة «ميلان» التي حصلت له فيها قصص غرامية لوعته وحرقت قلبه حرقا. وربما لهذا السبب ألف كتابا عن «فلسفة الحب»، بل وبلور نظرية متكاملة عن الموضوع. فالنساء الايطاليات خطرات وحبهن قاتل. ولولا عفو الله لذهب ستندال ضحية ذلك الجمال الاخاذ وانطبقت عليه كلمة جميل بثينة: لكل حديث بينهن بشاشة... وكل قتيل عندهن شهيد.

المهم، لنعد الى ستندال وروايتيه الاساسيتين: الاحمر والاسود، و«رهبانية بارما». يرى جان دورميسون ان ستندال كان النموذج المضاد لشاتوبريان، فهذا الاخير تنكر للمثال الثوري وعاد الى احضان الكنيسة والحكم الملكي بعد ان انهار نابليون وانتهت مرحلة المغامرة الثورية التي لا مثيل لها في التاريخ. ولذلك ألَّف كتابه الشهير «عبقرية المسيحية». اما ستندال فلم يتراجع عن حبه للثورة الفرنسية ونابليون بونابرت وظل يكره الملكيين والمحافظين، واليسوعيين (اي الاخوان المسيحيين) والبورجوازيين: اي علية القوم في فرنسا آنذاك. و«الأحمر والأسود» هي قصة شاب طموح يدعى «جوليان سوريل»، وكان يستخدم النساء الارستقراطيات ومغامراته الغرامية معهن من اجل تحقيق مآربه والتوصل الى المناصب والمراتب.

ولكن ما يمثله جوليان سوريل قبل اي شيء آخر هو: صراع الطبقات. لقد سبق ماركس الى ذلك بنصف قرن تقريبا. ويصل الامر بجان دورميسون الى حد القول: هناك كتابان ساهما في تمجيد صراع الطبقات في القرن التاسع عشر هما: كتاب الرأسمال لكارل ماركس، ورواية الاحمر والاسود لستندال.

صحيح ان رواية ستندال الشهيرة هي بالدرجة الاولى رواية حب، لكنها ربما كانت ترهص ايضا بالبيان الشيوعي. كان جوليان سوريل يمر والنساء يتساقطن في احضانه الواحدة بعد الاخرى، وعندما اقتربت نهايته ووضعوا رأسه تحت المقصلة المعروفة للثورة الفرنسية بدا رابط الجأش وكأن الأمر لا يعنيه..

بعد تسع سنوات من تأليف هذه الرواية التي لا تقل شهرة عن «مدام بوفاري» لفلوبير، اذا بستندال يقدر على رائعة اخرى من روائع الادب العالمي: هي رهبانيّة بارما (اي دير مسيحي في مدينة بارما الواقعة شمال ايطاليا)، حيث حصلت بعض احداث الرواية. وهي الرواية التي مجدها بلزاك الشاب في مقالة رائعة نشرها في المجلة الباريسية:

«السيد «بيل» (الاسم الحقيقي لستندال) نشر كتابا تسطع صفحاته بالعظمة والسمو من فصل الى فصل. السيد بيل هو شخص متفوق من شخصيات عصرنا». هل كان بلزاك الشخص الوحيد الذي ادرك عبقرية ستندال؟ هل كان الشخص الوحيد الذي لم يصبه العمى بخصوص ميزاته؟ ربما. لكن الشيء المهم هنا هو انك لا تشعر بذرة حسد من طرف بلزاك تجاه ستندال. وهذا شيء نادر في تاريخ الكتّاب والادباء. فهو روائي مثله في نهاية المطاف. وكان يمكن ان يحسده ويغار منه. هل رأيتم شاعرا عربيا يمدح شاعرا آخر مثلا؟

يقال انهما التقيا مرة واحدة في عرض الشارع بباريس، وسلّم عليه بلزاك وطلب ان يجلس معه في المقهى. كان ستندال يكبره بستة عشر عاما، وبالتالي فيمكن ان يكون استاذه في فن الكتابة والحياة. ما الذي قاله الرجلان في ذلك اللقاء؟ لا اعرف، ولم يتح لي ان ابحث عن هذا الموضوع. هل كان ستندال يعرف من هو الشخص الذي يجلس امامه؟ هل كان يعرف انه بطل الرواية الفرنسية بدون منازع، او سيكون البطل في نهاية المطاف؟

كل ما اعرفه هو انه في الفيلم السينمائي المخصص لبلزاك نجد هذا الاخير يركض وراءه بعد ان انفض اللقاء ويصرخ بأعلى صوته: ستندال! ستندال! نسيت ان اقدم نفسي. انا بلزاك، هوندريه دوبلزاك.

لكن الاخير كان قد ابتعد وغاص في زحمة البشر والحياة.. في نهاية حديثه عنه يكتب جان دورميسون الكلمات التالية: كانت لستندال ثلاثة مثل عليا: الحيوية، المتعة، الحقيقة. لقد كتب بشكل فريد من نوعه، لا يشبه احدا ولا يشبهه احد. وقد فشل كثيرا في الحياة والركض اللاهث وراء السعادة. لكنه نجح في مجال الادب بشكل يتجاوز كل التوقعات.

والآن لننتقل مع جان دورميسون الى وحش الرواية الفرنسية: بلزاك ذاته كثيرا ما وصفوه بأنه روائي واقعي يعرف كيف يراقب الاشياء من حوله ويتفحصها بعين دقيقة. وهذا صحيح. فقد كتب مرة الى احدى صديقاته يسألها: اريد ان اعرف اسم الشارع الذي يوصلنا الى ساحة البلدة، ثم اسم الشارع الذي يحاذي تلك الساحة.. ثم اسم الباب الذي يوصل الى الكاتدرائية.

لكن من الخطأ الجسيم ان نختزل بلزاك الى مجرد روائي واقعي، موضوعي، يعرف كيف يلاحظ الاشياء ويسجلها. لا. بلزاك شاعر من العمق، ومن اعلى طراز، وحتى عناوين رواياته تشبه قصائد الشعر احيانا. لنفكر ولو للحظة برائعته: الزنابق في الوادي.

كان بلزاك ذا خيال عظيم، وبه تفوق على جميع الروائيين الفرنسيين، كبيرهم والصغير. ولم يكن مخطئا عندما قال عن نفسه: انا نابليون الادب! فكما ان نابليون كان فاتحا في المجال العسكري، فإن بلزاك كان الفاتح الاكبر في تاريخ الآداب الفرنسية.

كيف كان يشتغل بلزاك؟ بطريقة عجيبة ومخيفة في آن. كان يعيش على عكس البشر: عندما ينامون يستيقظ، وعندما يستيقظ ينامون. كان يغلق عليه النوافذ والابواب حتى ينقطع كليا عن العالم الخارجي لكي يتفرغ لعالم آخر من صنع الخيال. وعندئذ كان يشمر عن ساعديه ويحضر «طنجرة» قهوة كاملة، ثم يبتدئ في الكتابة كالوحش الكاسر. وكانت الشخوص الروائية تتصارع في ذهنه وكأنها حقيقية من لحم ودم، ثم يغوص في عقدة الرواية والمناورات والمؤامرات حتى يخلق عالما آخر يوازي العالم الواقعي ويتفوق عليه. وفي اثناء ذلك كان يدبج عشرات الصفحات. وكانت الجلسة تستمر احيانا ثماني عشرة ساعة متواصلة بعد ان يكون قد استهلك عشرات الفناجين من القهوة. ثم يترك طاولته ويرتمي منهكا على السرير وكأنه ميت. على هذا النحو كتب بلزاك «الكوميديا البشرية» التي تجاوزت الثمانين رواية او قصة قصيرة. ومعظمها روائع ادبية. في الغالب لا يستطيع الكاتب مهما كان عبقريا ان يكتب اكثر من روايتين او ثلاث من الروائع. واما البقية فتكون عادية. اما بلزاك فمعظم ما كتبه يصنف في خانة الروائع الكبرى.

وربما كان نظام عمله هذا هو الذي قتله. فالرجل مات في سن الخمسين بعد ان حقق كل امانيه وبعد ان تزوج المرأة التي يحبها وتخلص من ديونه وبنى بيتا جديدا. في تلك اللحظة بالذات انهار بلزاك وانطبق عليه قول الشاعر العربي: توقع زوالا اذا قيل تمّ.. لم يمهله الزمن لكي يهنأ بالوصول..

على مدار ثمانية عشر عاما كان يحلم بالزواج من تلك المرأة الروسية التي احبها، وعندما توصل الى كل امانيه مات.. وفي اثناء الاحتضار نظر اليها طويلا وسألها: لماذا قبلت بالزواج مني؟ ما الذي اعجبك فيّ: الرجل ام الاديب؟ فترددت قليلا بعد ان ابتسمت ثم قالت: الأديب! فصعق بلزاك لأنه كان يعتقد انها احبته لشخصه بالدرجة الاولى.

والواقع انها كانت قد اطلعت على رواياته قبل ان تتعرف عليه شخصيا فجنت جنونا بها. وراحت تفعل المستحيل لكي تراسله وتراه. وعندما تعرفت عليه شحبت الصورة قليلا. وذلك لأن الشخصية الواقعية لا تتطابق احيانا مع الصورة الخيالية التي نشكلها عن الادباء العظام.

في شبابه الاول يكتب بلزاك رسالة الى اخته المحببة اليه:

«وجدت فكرة رائعة. سوف اصبح عبقريا». وبعدها بسنوات قليلة سوف يكتب دوستويفسكي رسالة الى اخيه ميشيل يقول فيها: «عندي مشروع كبير: ان اصبح مجنونا».

ولا اعتقد انه يوجد فرق كبير بينهما. فكلاهما كان عبقريا الى حد الجنون، او مجنونا الى حد العبقرية.

لقد استطاع بلزاك ان يخلق عالما كاملا من نسج الخيال ككل الروائيين الكبار، لكنه عالم مقنع ويمتلك مصداقيته الخاصة، بل يبدو احيانا اكثر واقعية من العالم الواقعي، ويقال بأن شخصيات بلزاك الروائية اختلطت بالواقع الحيّ الى درجة انه قال لهم وهو يحتضر: اطلبوا لي الدكتور بيانشون! والمدعوّ لا وجود له على ارض الواقع، وانما هو طبيب من صنع الخيال. انه اسم الطبيب الوارد ذكره في الكوميديا البشرية كاحدى شخصياتها الروائية.

* نحو تاريخ آخر للأدب الفرنسي Une antre Histoire de La Litterature Francaise

* المؤلف: جان دورميسون Jean D"ormesson

* الناشر: دار النيل ـ باريس Nil Edition. paris