«مرفأ الذاكرة» مفكرون وكتاب عرب يتذكرون

TT

جاء العدد الجديد من كتاب العربي، المعنون بـ«مرفأ الذاكرة» (304 ص من القطع الصغير، أكتوبر 2003)، متميزا في موضوعه ومادته، وفي أسماء الأدباء والمفكرين المساهمين فيه. وأهمية هذا العدد / الكتاب الجديد تكمن في طابعه الأدبي والإبداعي عموما هذه المرة، بخلاف الأعداد الثلاثة والخمسين السابقة، تلك التي جاءت، في مجملها، عبارة عن دراسات وأبحاث وتأملات وقراءات في العديد من الظواهر والقضايا المعرفية والعلمية والثقافية والسياسية والبشرية والدينية والاجتماعية والتربوية والأدبية، كما أنه الكتاب الثامن والعشرون الذي يصدر، ضمن هذه السلسلة، ككتاب جماعي.

فعبر واحد وعشرين مساهمة في هذا الكتاب الجديد لمجموعة من المفكرين والكتاب والمبدعين والفنانين من بعض الأقطار العربية (مصر، المغرب، الكويت، سوريا، العراق، لبنان، البحرين..)، نشرت على صفحات مجلة «العربي» على امتداد سنوات خلت (ما بين 1998 و2002)، قبل أن يتم جمعها بين دفتي هذا الكتاب، لتصبح بذلك كتابا في الذاكرة، ومرجعا نصيا في السرد البيوغرافي والشخصي، باعتبارها «محكيات تذكرية» لجوانب من سير بعض مفكرينا وكتابنا وأدبائنا العرب، ممن وجهت لهم الدعوة من قبل ـ وهم غير ممثلين جميعهم في هذا الكتاب، حسب ما جاء في الكلمة التقديمية للكتاب للدكتور سليمان إبراهيم العسكري ـ للمساهمة في هذا الباب الجديد الذي فتحته مجلة «العربي» أمام الكتاب العرب لحثهم على سرد مفتوح لجوانب من تجاربهم الماضية، فيما يشبه الفصول والمحطات السيرذاتية، وذلك في ظل الغياب الممتد في الزمن لدى مفكرينا وكتابنا العرب بالاهتمام بكتابة سيرهم الذاتية والتأريخ لتجاربهم في الحياة وفي الكتابة، لهذا السبب أو ذاك، باستثناء ما حدث من تحول طفيف، حصل في السنوات الأخيرة، على صعيد إقبال بعضهم على كتابة سيرهم الذاتية، حيث «فجأنا» بعض مفكرينا ونقادنا وأدبائنا كمحمد عابد الجابري وعبد الرحمن بدوي وإحسان عباس وعلي الراعي والراحل إدوار سعيد وسهيل إدريس، بنشرهم لسيرهم الذاتية، حيث كان لبعض هذه النصوص الصدى الكبير على مستوى التلقي والتأثير وإحداث صدمة وردود فعل موازية.. وأيضا في ظل غياب تقاليد لدى كتابنا، مع بعض الاستثناءات القليلة، على مستوى الإقبال على جمع ونشر كل ما له اتصال بإضاءة جوانب من تجاربهم في الكتابة وفي الحياة، من رسائل وحوارات ونصوص خاصة في البوح، ويحضرني، في هذا الإطار، على سبيل المثال فقط، بعض الكتب المهمة المنشورة، والتي تصنف ـ في تمييزها عن السيرة الذاتية ـ إما في باب «السيرة الأدبية والثقافية»، ككتاب «ها أنت أيها الوقت» لأدونيس، وهو عبارة، كما يفهم من محتواه أيضا، عن «سيرة شعرية ثقافية»، كما فضل كاتبه تجنيسه، وكتاب «من ذاكرة تلك الأيام» لعبد الرحمن مجيد الربيعي، وفيه يؤرخ، انطلاقا من تجربته الأدبية ـ حتى لا نقول السير ذاتية ـ للمشهد الثقافي والأدبي العربي، في محطاته الأساسية وفي تحولاته البنيوية والتاريخية والسياسية، عدا كتابين آخرين في علاقة الذات الكاتبة بـ«سيرة المكان» تحديدا، لكل من عبد الرحمن منيف والراحل إدوار سعيد.. إلى جانب اهتمام بعض الدوريات العربية كذلك، وأخص بالذكر، هنا، الجريدة الثقافية «زوايا»، باستضافة مبدعين عربا، «عبر لعبة مرايا تقتضي من الضيف أن يكتب رسالة إلى نفسه عندما كان شابا»، وهي إنما تحفزهم، عبر ذلك، على تحريك ذاكراتهم وتحفيزها على التذكر ورسم جوانب من «صورة» ذلك «الشاب» الذي كانوه في مرحلة بيولوجية وزمنية وتاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية معينة، في ذلك الركن الممتع المسمى «بين هلالين» ضمن نفس الجريدة «زوايا»، مع ضرورة الإشارة، هنا، كذلك إلى ما يمكن لهذا الجانب الأدبي هنا، كما هو الحال في الكتب السابقة، أن يقدمه للحياة الثقافية العربية عموما من إمكانات مساعدة على معرفة وإدراك ما كان يعتمل في مجتمعاتنا العربية، وغيرها، ومدننا ومشاهدنا وصالوناتنا الثقافية والأدبية والفنية العربية من أسئلة وقضايا ومعارك وعِبَر وتحولات، وعلى إضاءة «الراهن» انطلاقا من تجارب الآخرين في «الماضي».

نقرأ، إذن، في هذا الكتاب الممتع «محكيات» متباينة، على مستوى طريقة السرد ولغاته، وأيضا على صعيد طبيعة المرجعيات الحياتية التذكرية المختارة، وهي لكل من: د. أحمد أبو زيد (الإنسان وليد المصادفة)، د. أحمد مستجير (في العلم والشعر)، إدوار الخراط (عن ثمرة التجربة والقناع الذي سقط)، د. ثروت عكاشة (كنت شاهدا على إنقاذ آثار النوبة)، د. جلال أمين (عن العلم والميتافيزيقا.. والنهضة)، حنا مينة (الكتابة.. هي الحياة)، د. سهيل إدريس (محاولة للانتصار على الهزيمة)، د. شكري محمد عياد (العاشق المصري)، د. طيب تيزيني (وهج الطفولة.. والجدلية المفتوحة)، عبد الله بشارة (من زوايا ..التجارب)، د. عبد القادر القط (عشقت التجديد والفكر المتحرر)، عبد الوهاب البياتي (وردة المستحيل)، عبد اللطيف يوسف الحمد (ذاكرة العطاء ورحلة الإنماء)، د. عبد الهادي التازي (ذكرى البدايات الجميلة: «العربي» هذا الصرح الشامخ»، علي زكريا الأنصاري (رحلة عمر بين الموسيقى والأدب)، د. علي الراعي (تنفست نسيم الحرية والتسامح)، فاتح المدرس (الوطن ... بالريشة والكلمة)، فتحي غانم (مغامرة التفكير الحر)، د. محمد جابر الأنصاري (مرفأ لحقيقتنا الضائعة)، د. محمد برادة (بل إنها مرافئ للذاكرة)، د. نقولا زيادة (إيقاع على أوثار الزمن).

ومن بين هؤلاء الكتاب السالفي الذكر من سبق له أيضا، إلى جانب كتابتهم لهذه النصوص أو لأخرى شبيهة (حنا مينة، محمد برادة...)، أن كتب ونشر سيرته الذاتية، كما هو الحال بالنسبة لسهيل إدريس وعلي الراعي، ومنهم أيضا من تتناثر، بشكل لافت، جوانب من سيرهم الذاتية داخل نصوصهم الأدبية، الروائية تحديدا، كما هو الشأن عند إدوار الخراط وحنا مينة ومحمد برادة.. كما أن من بين هؤلاء أيضا من أتاحوا لنا الفرصة، عبر هذه النصوص، للاطلاع عن جوانب من محطاتهم الحياتية الخفية والمجهولة، ومن رحلتهم الشيقة والصعبة مع الفكر والكتابة والقراءة، كما عند أحمد أبو زيد والطيب تيزيني، خصوصا أن صديق هذا الأخير، في الرحلة مع الفكر العربي والإسلامي، وأقصد المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، قد سبق إلى كتابة سيرته الذاتية الطفولية، بعنوان «حفريات في الذاكرة من بعيد»، مما يعني، هنا، أن الكتابة عن محطات معينة من حياة الفرد لا ترتبط بالكاتب الأديب فقط، بل إن للمفكرين، وحتى السياسيين، نصيبا لافتا في هذا المجال.

كما يشتمل هذا الكتاب على نصوص لكتاب عرب رحلوا اليوم عن عالمنا، مخلفين لنا هذه الكتابات الشاهدة عن فترات معينة من حيواتهم، ورحلتهم مع السفر والكتابة والقراءة والتأليف، ونشير هنا إلى الراحلين عبد القادر القط، عبد الوهاب البياتي، فتحي غانم.

* مرفأ الذاكرة

* تأليف: مجموعة من الكتاب

* الناشر: مجلة العربي ـ الكويت