من عصر التأسيس الى عصر الرهبة والإعجاب

كتاب جديد يرصد تطور العلم من عصر النهضة حتى الآن ودور العرب فيه

TT

تأريخ دقيق وشائق لثمانمائة عام من تطور العلم منذ العصور الوسطى المبكرة مرورا بالفورة الضخمة لعصر النهضة وحتى تطور العلم الحديث يرصده لنا كتاب «المقدمات التاريخية» للعلم الحديث من الاغريق القدماء الى عصر النهضة لمؤلفه: توماس جولدشتاين وتصدير ايزاك أسيموف وترجمة: أحمد حسان عبد الواحد والصادر حديثا عن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت.

يقع الكتاب الذي تبلغ صفحاته 262 صفحة في ستة فصول فضلا عن التصدير والمقدمة والخاتمة، يناقش من خلالها تطور العلم الذي أصبح يمثل قوة هائلة تسيطر على عصرنا وتثير فينا مزيجا معقدا من الرهبة والاعجاب: الرهبة من تأثيراته الكارثية المدمرة وتهديده بأن يجرف في تطوره قيمنا الاخلاقية والروحية والاعجاب بقدرته اللامحدودة على احداث التطور الاجتماعي والرفاهية وسعادة البشر.

يكشف الفصل الأول تصور الأرض في فلورنسا عصر النهضة من منطلق نظرة المؤلف الى العلم باعتباره ظاهرة تاريخية ،يربط بين مختلف عصورها صراع الانسان لالتقاط قوانين الطبيعة، ومواجهة تحديها المزدوج للعقل والحواس، وبذلك يزيد من تقديرنا لحيوية الثقافات التي سبقتنا وابداعيتها المذهلة التي شكلت حساسيتنا وصاغت أسس تفكيرنا، فقد صرنا أكثر ثراء وأكثر حرية لأننا شاركنا في اكتشاف الطبيعة على طول الطريق، من ألبرتوس ماجنوس وروجر بيكون وليوناردو دافينشي بينما يكشف الفصل الثاني المعنون «الجذور القديمة» حقيقة مدهشة هي أن العصور الوسطى،لما يقرب من ألف عام، قد آمنت بجدية بوجود «عالم ترنسندنتالي» تكون فيه ظواهر العالم المنطلق مجرد انعكاس بائس لحياة الدوائر الأسمى، وهذا الايمان هو الذي منح ثقافة العصر الوسيط مزاجها ونكهتها. ويرى المؤلف انه لكون ثقافة العصر الوسيط عميقة الأصالة في ذاتها فإنها تمثل فترة الحمل في صعود الغرب الحديث، بل نستطيع القول بأنها كانت المرجل الضخم الذي جرت فيه اعادة تشكيل واعادة صب التيار العريض من الميراث القديم حتى بزغت مكوناته الكبرى في شكلها الحديث الأول، لكن في الوقت نفسه طورت العصور الوسطى ثقافة أصيلة ذات حيوية ابداعية فريدة، فالعلم الحديث والعالم الطبيعي الحديث، مع الرأسمالية والديمقراطية البرلمانية الحديثة، والنقابات والنظم الاجتماعية والفكر السياسي الحديثين، وأسس التكنولوجيا الحديثة تعد من أهم نتاجات ثقافة العصر الوسيط.

أما الفصل الثالث من الكتاب «العلم والايمان في شارتر» فيناقش قضية تضافر العلم والايمان في شارتر باعتبارها كاتدرائية من أولى الكاتدرائيات القوطية التي بنيت في باريس خلال القرن الثاني عشر، وقد اقترن تأثيرها الشامح المهيب بانجاز تكنولوجي ضخم، حيث اتخذت شارتر مكان الصدارة في اعادة بناء المعرفة العلمية للعالم القديم ومن ثم أرست أساسا للتطور القادم للعلم الغربي، وبشكل أساسي فإن نظريات شارتر كما أوضح المؤلف تنطلق من هذا التركيز الجديد للرؤية الوسيطة على الطبيعة بوصفها قوة حيوية، خلاقة بشكل متصل أو أنها «بصيرة» بالمعنى الحرفي للكلمة.

بينما يمثل الفصل الرابع من هذا الكتاب واسطة العقد حيث يكرس المؤلف فصلا بديعا للعلم الاسلامي بمخزونه الهائل من المعرفة في كل المجالات، ومن ثم جاء عنوانه «هبة الاسلام» مرآة عاكسة لمضمونه الثري وتفاصيله شديدة الوضوح. ويندهش المؤلف من المصادفة الفريدة التي تمثلت في التقاء العلم الاسلامي بالعقل الغربي، حين كان الغرب في أمس الحاجة اليه، ليثبت بذلك أن عالمنا المعاصر نتاج عملية تاريخية معقدة، وأن قوى تاريخية من الماضي البعيد هي التي ولدت التفوق العلمي والتكنولوجي للغرب الحديث وليس امتيازا موهوما للعقل الغربي.

ويؤكد المؤلف أن الاسلام واحد من أشد الظواهر ادهاشا في التاريخ الثقافي، ففي ما بين منتصف القرن السابع ومنتصف القرن الثامن صعدت القبائل البدوية لشبه الجزيرة العربية لتتولى دور السيادة على معظم ما كان يمثل العالم القديم، وخلال وقت قصير، رفعوا أنفسهم من مستوى البدو الى مستوى الورثة اللامعين للثقافات القديمة، لافتا الى أن العرب مثلهم مثل قبائل الهندو ـ أوروبين أو «الجرمان» شاركوا في تقويض هيمنة روما، التي كانت بدورها تضم معالم العالم القديم، لكنهم على خلاف الجرمان قاموا بفتوحاتهم العالمية انطلاقا من قاعدة شرقية صلبة تضم المراكز الثقافية القديمة، وهذا الاختلاف شكل عنصرا له وزنه في صياغة دورهم التاريخي.

ويحدد المؤلف ثلاثة عناصر رئيسة قدرت للمسلمين دورهم الثقافي اللامع أولها الحماس الفطري لقوم لم تفسدهم الحضارة إلى حد كبير، العنصر الثاني هوالقرآن الذي صهر أتباعه في جيوش تحارب من أجل رسالة مقدسة.

أما العنصر الثالث وهو الأكثر حيوية فيتمثل في الطابع الكوني للثقافة التي خلقها العرب والتي احتفظت بهذا الطابع ذي النسيج المتآلف من خيوط مختلفة، حتى يومنا هذا.

بينما حمل الفصل الخامس عنوان «مدرسيون وغيبيون وخيميائيون» ويناقش المؤلف خلاله استقلالية العالم الغربي المنفرد بذاته، ليعمل بالمواد التي راكمتها الثقافات الأسبق من منطلق رشاقة فكرية مدققة، وفطنة نقدية وثقة منهجية بالنفس، وكلها ثمار للانضباط الصارم لفكر العصر الوسيط المبكر.

ويعرج المؤلف علي «الفن والعلم في عصر النهضة» في الفصل السادس من الكتاب مبرزا أهم فناني عصر النهضة وأبرز علمائه ودراسة التأثيرات المختلفة لرصد التطور من النظرة الى الفنون باعتبارها فنونا لا تقوم على منهج تأصيلي واضح الى اعتبارها علما قد بلغ ذروته على أسس منهجية سليمة واضحة.

ويخلص الكتاب الى أن معرفة العلم الحديث لم تبدأ بروح السلطة التي تنطوي على تهديدات غير محدودة، بل بروح سعيدة وصحية كجزء من البحث عن آفاق عقلية جديدة وعن وجود أكثر تحققا، وقد ساهم في ذلك أن العلم قد اكتسب سلطته الحالية الى حد كبير بسبب تطورات تالية لا تتعلق بجوهر العلم وغاياته، بل بمدى تأثيره في تحرير تفكيرنا في الغد القريب.

* المقدمات التاريخية للعلم الحديث. من الاغريق القدماء الى عصر النهضة

* المؤلف: توماس جولدشتاين ترجمة: أحمد حسان عبد الواحد

* الناشر: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت