ثقافة يأس أم انتظار؟

فاضل السلطاني

TT

حاولنا مرتين في بغداد عقد مائدة مستديرة مع قسم من المثقفين العراقيين عن الشأن الثقافي العراقي اليوم، وفشلنا في المرتين.

وكان الروائي العراقي أحمد خلف واضحا اكثر من أقرانه في تفسير أسباب عزوفه عن مثل هذه اللقاءات. «فالحديث عن الثقافة والمثقفين مؤلم، واذا تكلمت لن أتوقف حتى الصباح». أما الشاعر عبد الرحمن طهمازي، فأعلن يأسه من جدوى أي لقاء ثقافي.

وهذان الموقفان ينعكسان في خلو الصفحات الثقافية، إن وجدت في الصحف العراقية التي لا يمكن عدها، من معالجة قضايا ثقافية كبرى لا يمكن تأجيلها، او التعويم عليها لصالح الخبر السياسي المحموم.

لم نقرأ، بعد، شهادات من داخل العراق عن القمع الثقافي الرهيب الذي مارسه النظام السابق، ولم نطلع على دراسات تتناول الآلية التي استطاع عبرها البعثيون العراقيون تحويل ثقافة عريقة الى ماكينة اعلامية جبارة انتجت مع الزمن، ثقافة فاشية بدوية رثة، كان زيتها اسماء ثقافية بارزة، عراقية وعربية، انحرفت عن سياقها الثقافي الانساني لتتحول الى ألسنة صارخة من المديح والكذب والدجل.

ولم يتقدم، بعد، الى الواجهة المثقفون الذين غيبهم النظام السابق اكثر من جيلين، فلم تصل اصواتهم الينا.

لم نر، بعد، أي مسعى نظري لتفكيك الآليات التي تعمل بها «الثقافة البعثية»: ثقافة انتظار الاوامر من المركز الواحد الأحد، وتمجيد القوة على انها رجولة، والحرب على انها اختبار للقوة الانسانية، وتقديم العشيرة على الوطن، والفئة على المجتمع، وما يريده السياسيون والكهان على ما يطالب به الناس البسطاء، غذاء المقابر الجماعية، وإعلاء الإعلام على الثقافة، واخيرا الصعود السهل الى سماء المجردات، بل الهبوط الى أرض الواقع الحي.

كأن العقل الثقافي العراقي في اجازة، كأن ما يحتاجه هو فسحة، ربما تطول للتأمل والاستشفاء من جرب ثقافي استشرى في كل اجزاء الجسد العراقي، ولم يصدق احد لحد الآن انه اختفى للابد على يد غريبة، يد لم تمتد من الداخل حتى يصدق الجسد ان عضوا منه فعل ذلك. كأن هذا التغيير الهائل ما زال معلقا في الهواء، ولم يخترق، بعد، جلودنا الى أفئدتنا ووجداننا.

ما زالت الثقافة العراقية معلقة في الهواء، فحاملها الطبيعي، الطبقة الوسطى، قد سحقها القمع، وابتلعتها، ليس الحروب فقط، وانما البدو القادمون من غرب بغداد، أعمام وأخوال الثورة، كما كان يحب ان يقول الكاتب شمران الياسري، والنازحون من شرق بغداد، وقود وقرابين الفاشية البعثية العراقية.

كأن المثقف العراقي يردد مع ايليوت: اية مغفرة ترجى، وهو يرى الى المطحنة التي أدارت رحاها، ايضا، افواج زملائهم العرب اصدقاء طارق عزيز ولطيف نصيف جاسم، الى بغداد والبصرة، ورقصهم على جثث صفاء الحافظ، وصباح الدرة، وخليل المعاضيدي، ومحمد مهدي الجواهري، وغائب فرمان، هل نستطيع ان نتحدث عن «ثقافة يأس» ام «ثقافة انتظار»؟

للمرة الاولى، تسود ثقافة التفاؤل بين العراقيين الذين خرجوا من المقبرة حقيقة وليس مجازا، ليدفنوا فيه حقيقة وليس مجازا، الاحتلال الوطني الذي استمر أربعة وثلاثين قمعا وحربا، وابتلاع قرية بدوية متخلفة لبلد عرف المجتمع المدني منذ ثلاثينات القرن الماضي.

العراقيون ليسوا مشغولين بالاحتلال الاميركي ـ تركوا ذلك لاخوتهم العرب ـ ولا حتى بالأمن، بل بحكايا الاحتلال الوطني التي لا بد ان تظهر يوما ليدرك المتباكون على عراق الامس، كم كانوا مخطئين لحد التواطؤ. للمرة الاولى، ادرك كم ان الحرية قادرة بضوئها العجيب على انارة اكثر الوجوه تعبا. سترتفع هذه القيمة الجديدة في تاريخنا الى ضمير ووجدان لا يمكن التراجع عنهما، ولن يتحقق ذلك الا بفعل ثقافي ما زلنا غير قادرين على ممارسته بعد. لكن قسما كبيرا من المثقفين ما يزال يتخذ موقع الدفاع بدل موقع الهجوم على القيم التي انتجت الهولوكوست العراقي.

وما زال المثقفون الذين ساهموا في صنع ثقافة العنف البعثي، وتكريس التشوه الثقافي والاجتماعي، يحتلون، كما يقول وزير الثقافة العراقي مفيد الجزائري في مقابلة له مع «الشرق الأوسط» تنشر غدا، مواقع قيادية في الجهاز الثقافي العراقي. كأن هناك ثقافتين تتعاكسان الآن في العراق، ولا بد من حسم الامور سريعا، ليس بالادوات الصدامية القديمة، بل بالاداة الثقافية ذاتها. وهي للاسف غير موجودة بعد، ما عندنا الآن هو ثقافة انتظار، انتظار لما يفعله الآخرون. ان الشارع يسبقنا، مرة اخرى بأمتار، بحركته العفوية، لكن الصادقة.

واذا لم نلحق به، ستبقى القيم العظيمة الجديدة، مجرد رايات معلقة في الهواء قد تطيح بها أية رياح سوداء، وهي تتجمع بكثرة في فضاء العراق، من داخل الحدود وخارجها.