النقيب.. من الثورة ضد الإنجليز إلى المهادنة

ببلوغرافيا عن شخصية عراقية لعبت دورا بارزا في تاريخ العراق بين نهايات الحكم العثماني وبدايات النفوذ البريطاني

TT

صدر عن الدار العربية للموسوعات ببيروت كتاب ببلوغرافيا عن الشخصية العراقية التاريخية المعروفة، طالب باشا النقيب البصري، الذي لعب دورا بارزا في تاريخ العراق السياسي الحديث وبالذات في الفترة الممتدة بين نهايات الحكم العثماني للعراق وبدايات النفوذ البريطاني في بداية القرن الماضي.

وقد الف الكتاب الذي يقع في 550 صفحة من القطع الكبير ـ الدكتور حسين هادي الشلاه. وتكمن اهمية هذه الشخصية التي يجهلها الكثيرون في كونها تفاعلت بديناميكية مع مجريات الاحداث المتلاحقة التي كانت تتوالى وتتلاحق بسرعة في انحاء الامبراطورية العثمانية المتصدعة والمتشققة اواخر ايامها، اضافة الى ان طالب النقيب شكل حلقة وصل بين مختلف الشخصيات الرئيسية على مسرح الاحداث وخاصة الوطنية والمناوئة للحكم التركي في كل من العراق وبلاد الشام ومصر.

قدم الكاتب شخصية طالب النقيب على انها شخصية مفعمة بالديناميكية والحيوية السياسية وتتمتع بالقدرة على التحليل والاستقراء السياسي والمناورة والدهاء الى جانب ميل نحو التسلط والانفراد بالاتجاه السياسي، لكن التلون في الايديولوجيا والتقلب في الاتجاه كان محط انتقاد الكثيرين من خصوم النقيب رغم ان الكاتب وجد انها واقعية ومرنة يثنى عليها.

الكثير من الاحداث والمواقف التي سردها الكاتب تذكر القارئ بأحداث حالية تجري على الساحة العراقية لذلك فان الاستعراض التاريخي والتوزع الجيوسياسي للتيارات السياسية بدا مفيدا.

تميزت حياة طالب النقيب بأنها بدأت مستقرة وتميل للولاء للسلطان العثماني الذي اغدق على النقيب الاوسمة والمراكز والمهام الرفيعة مما زاد من شأنه ورفع من سوية طموحاته، لكن هذه السيرة المستقرة في تصاعدها وتألقها التي وصلت الى حكم متصرفية الاحساء تعثرت وبدأت بالتأرجح عندما استقال النقيب من هذا المنصب لان السلطان بعد الحميد حنث بوعده له بالاستوزار او التولية على سورية اذا ما تعامل النقيب مع ازمات متأججة ومندلعة في «المنتفك» فكان ما اراد. لكن السلطان لم يفِ بالوعد فاستقال النقيب في رد غير مباشر على هذا الموقف فاستدعاه السلطان للعمل في مجلس الشورى في الاستانة 1903 ولغاية 1908، حين اعلنت الثورة على السلطان عبد الحميد بقيادة جمعية الاتحاد والترقي. عند ذلك عاد النقيب الى العراق لكن الشعارات البراقة عن الحرية والمساواة (التي سوقتها وروجت لها جمعية الاتحاد والترقي) دفعت النقيب للانتساب اليها طمعا في بلورة الحكم العربي عبر استخدام مبدأ المساواة في الدولة التركية، الا ان سياسة الجمعية الرسمية المضادة للتحرك العربي والمؤيدة لتتريك كل شيء ولو بالقوة جعلت الاتحاد والترقي جمعية مترهلة ومكروهة في البيئة العربية بعد ان صفقت لها وانضوت تحتها بحماس الكثير من التيارات، وكان ان بدأ النقيب بمناوأة الاتحاد والترقي وصرف المساندة عنه، وفي هذه الفترة انبثق حزب الحرية والائتلاف الذي تأسس 1911 وتألق بهمة الامير آلاي صادق بك الذي شجع بقاء الرابطة العثمانية وشجب الافكار القومية والاسلامية، فقدم النقيب دعمه وتأييده للحزب الجديد. لكن هذا التأييد ظل محل استغراب المؤرخين والدارسين لأن النقيب يحمل هاجسا قوميا عربيا وهو يوافق على شجب الافكار القومية والاسلامية مقابل الولاء للرابطة العثمانية الواسعة. اما المؤلف د. الشلاه فيعتقد ان هذا القبول كان تكتيكيا وظاهريا ريثما يتمكن من تأسيس جمعيته الاصلاحية في البصرة بعد نجاح نموذجها في بيروت وهنا بدأ الاتحاد والترقي سعيه المحموم للتخلص من النقيب اما عبر ابعاده او القبض عليه ولما فشلت هذه المحاولات باشر الاتحاديون اغتيالات سياسية للمعارضين ولم يكن النقيب بمنأى عن هذه المحاولات التي فشلت في تصفيته.

الانجليز والنقيب: بدأ الانجليز اتصالاتهم الاولى مع طالب النقيب بعد ايام ثلاثة من افتتاح مقر حزب الحرية والائتلاف في البصرة حيث زار القنصل البريطاني النقيب في مقر الحزب وعرض عليه رسو قطعة بحرية بريطانية بغرض الحماية ضد اجراءات معادية من قبل الحكومة التركية لكن عرضه قوبل بعدم الموافقة.

وفي مرحلة لاحقة عندما تم حل حزب الحرية والائتلاف لاطلاق بديل آخر هو الجمعية الاصلاحية التي طالبت بالوطن العثماني تحت راية الهلال، تمسك النقيب بمركز الخليفة العثماني الديني وندد بممارسات الاتحاد والترقي الذي اعدم الابرياء وباع البلقان وفشل اقتصاديا ناهيك من التغاضي عن الهجرة اليهودية لفلسطين. ومن جديد حاول الانجليز استغلال الظرف فحرضوا على الثورة لكن النقيب قرأ ذلك التحرك الانجليزي من خلال قراءة صحيحة للخارطة السياسية حيث ادرك ان الانجليز يحاولون افراغ العراق من الاتراك للانقضاض عليه واحتلاله، وخامره شعور مواز بأن ثورته على الاتراك دون التنسيق مع الانجليز ستدفع الانجليز للتعاون مع الاتراك والتآمر مع الاتحاديين ضد ثورة عراقية لا تستمد دعمها من الانجليز، فأحجم عن اعلان الثورة.

لكن النقيب بدأ يتألق كرائد للقومية العربية في البصرة التي ظهرت فيها ثلاثة محاور هي 1 ـ الدولة التركية 2 ـ العرب المناوئون للدولة العثمانية 3 ـ الانجليز المتربصون بالبصرة. وتبلورت الآن مطالب العرب عبر النقيب بشكل صامت نحو تأسيس دولة مستقلة. وعاود الانجليز التحرك للاستفادة من الجو العام وعرضوا على النقيب مبادرة مغرية تقضي بأن يساعدهم على احتلال البصرة مقابل تنصيبه حاكما عاما على ولاية البصرة والناصرية والعمارة وجعل اللغة العربية رسمية وتعيين موظفين عراقيين في المناصب الرسمية والقضاء، اضافة الى جعل ادارة الاوقاف تحت اشراف الحكومة واعفاء الاملاك الشخصية للنقيب من الرسوم في حين يكتفي البريطانيون بأمر «المصارف والشؤون الاقتصادية والزراعية بغرض تطوير البلاد» وذكّر الانجليز النقيب بنماذج راجات الهند الذين جنوا الفوائد من مؤازرة الانجليز وكذلك الذين تم محقهم وسحقهم عندما عارضوا. وادرك النقيب ان للبريطانيين اسلوبا استعماريا عريقا ينطوي على التلويح بالاماني والرغبات واستغلالها واستخدام الترهيب اذا لزم، لذلك كان رد النقيب مغايرا فقد تعهد باعلان الثورة على الاتراك على ان يقتصر دور الانجليز في الامدادات بالسلاح والذخائر والمال والطيارين والفنيين وتبقى قطعهم البحرية خارج شط العرب وعندما تتأسس الدولة المستقلة «ملكية او جمهورية» يتم تعويض الانجليز عن مساندة الثورة بتسديد نفقات المساندة على انها قروض وتنتهي الحماية البريطانية بتسديد الديون فيما تبقى الامتيازات الاقتصادية وحدها نافذة، فلم يقبل الانجليز بالعرض كان البديل المتاح هو الاتصال مع الشخصيات القيادية العربية في المنطقة فحاول النقيب الاتصال مع الشريف حسين للتعاون ضد الاتراك لكن الحسين لم يبد حماسا وظل هذا الفتور للتعاون مع النقيب غامضا في اسبابه فلقيت عند ذلك دعوة الملك عبد العزيز آل سعود للنقيب استجابة سريعة ودافئة من الاخير، اذ فاجأ الملك عبد العزيز النقيب باستعداده للسفر الى العراق بجيشه ورجاله. وتبين لاحقا ان النقيب اراد التخلص من الاتراك لكنه لم يمانع من التحالف معهم ضد الانجليز مؤقتا لانه لم يكن يثق بالانجليز ونواياها بل ويخشاهم. لكن الاحداث تسارعت واخذت منحى آخر عندما اكتشف النقيب تحركات سرية للاتراك لالقاء القبض عليه لاجهاض اي تحرك مستقبلي ضدهم، فغادر البصرة الى نجد وعاد على رأس جيش نحو البصرة، لكن الانجليز كانوا اسبق من الجميع عندما اطبقوا على المدينة واستولوا عليها بسرعة فتوقف الركب حائرا. وتقرر بعد مداولات ومفاوضات ان يستسلم النقيب للانجليز على ان ينفى الى بومباي حتى نهاية الحرب العالمية الاولى ومن بومباي توجه الى مصر حيث استقبل من قبل الشخصيات الرسمية والوطنية المصرية بترحاب واحترام كشخصية وطنية عراقية الى ان سمح له بالعودة الى العراق باذن بريطاني. وهنا اتجه النقيب نحو مهادنة الانجليز والتعاون معهم وهم بدورهم تعاملوا معه ببراعة وحذق عندما اكرموا عودته وسلموه منصب وزير الداخلية واستنجدوا به للتعامل مع ثورة العشرين ضد الانجليز. وفاجأ النقيب الاحرار والوطنيين العراقيين بوقوفه بصلابة ضد الثورة وعدم مساندتها. وعندما بحث البريطانيون عن شخصية تتبوأ منصب رئيس الوزراء في العراق برز اسم النقيب قويا لكنهم فضلوا عبد الرحمن الكيلاني خشية ان يعارضهم النقيب في بعض سياساتهم وكانت هذه المرحلة سببا في بحث سبيل لحكم العراق عبر ملك يبتعد بالعراق عن الحكم الجمهوري ويكون مرتبطا من خلف الكواليس بالخيوط البريطانية وظهر مرشحو بريطانية كالامير عبد الله ثم الامير فيصل لكن النقيب قام بترشيح نفسه ملكا على العراق، مستندا على تاريخه السياسي ومكانته الاجتماعية والعائلية، واعتقد ان الانجليز سيلتزمون وعودهم بانتخابات حرة ونزيهة. وبدأ حملته الانتخابية يحدوه امل كبير باعتلاء العرش العراقي كأول ملك على بلاد الرافدين. وتدافعت عدة شخصيات للمنازلة في هذا الصراع منهم امير المحمرة (الشيخ خزعل) الامير برهان الدين وهادي العمري. لكن الانجليز كانوا بهدوء يحسمون امرهم لصالح فيصل الذي ابلغوه قرارهم عن طريق نوري السعيد فقبل فيصل شريطة ارضاء اخيه عبد الله فقدم الانجليز وعدا لعبد الله بتعويضه لاحقا ومنحه عرش سورية. وكان النقيب لا يزال يؤمن بالوعد البريطاني ولذلك عندما تناهى اليه خبر فرض فيصل ملكا على العراق لم يستكن وبدأ باستمالة العشائر ومطاردة الصحف المؤيدة لفيصل ولوح بالتهديد بالتمرد، لكن البريطانيين كانوا يراقبونه عن كثب وعندما ادركوا انه اقترب من عتبة تهديد الوضع دبروا مكيدة واعتقلوه فيها ورحلوه منفيا الى سيلان التي امضى فيها اربع سنوات قبل ان يعود الى البصرة 1925 الا انه كان قد اتخذ منهجا ميالا للاعتزال والاعتكاف السياسي وظل في هذه التقلبات الكثيرة الى ان ألم به المرض وتوفي 1929.

في كتاب د. الشلاه تفاصيل تاريخية كثيرة تشكل ارضية ضرورية لفهم طبيعة تحركات الشخصيات المحورية في هذه المرحلة. وبرغم تقديمه شخصية طالب النقيب البصري بايجابية فان جوانب كثيرة ومواقف لا تزال مثيرة للاختلاف حاول الشلاه الدفاع عنها لكن دفوعاته افتقرت احيانا الى توثيق او تحليل.

* طالب باشا النقيب البصري

* المؤلف: د. حسين هادي الشلاه

* الناشر: الدار العربية للموسوعات