المثقفون العرب يهربون والشباب يبحثون عن فيزا وقلة تدير السلطة

المستشرق الفرنسي لـ«الشرق الأوسط» الحركات الإسلامية تقوى بسبب الفراغ الفكري * العرب لم يفهموا شيئاً والأميركيون أيضاً

TT

لماذا تخطو فرنسا صوب منع الحجاب؟ ولماذا يوضع العالم العربي تحت المجهر وكأنما به وباء يخشى العالم تفشيه؟ وهل الحل العسكري هو وصفة ناجحة لإنهاء عنف الجماعات الإسلامية أم ان فهم تاريخ هذه الحركات هو الوسيلة الفضلى للتعامل معها أو العمل ضدها، وكيف؟ على هذه الأسئلة وغيرها يجيب المستشرق الفرنسي جيل كيبيل. وهو أحد أول من درس تاريخ الحركات الإسلامية في مصر، وبحث في ولادة الهوية الإسلامية في فرنسا، وهو أيضاً أحد أعضاء الهيئة التي شكلها شيراك ووضعت تقريراً حول حظر الحجاب أو السماح به في المدارس الرسمية. وقد أثار الرجل بسبب كتاباته حفيظة الكثيرين، وثمة من يعتقد ان أفكاره أصابها الشطط، بينما يحرص بعض آخر على اعتباره احد أهم المراجع الموجودة حالياً، في موضوع الحركات الإسلامية، وهنا مقابلة معه يتحدث خلالها عن «الحجاب» و«الارهاب» و«الوعي الخاطئ»:

* البعض لا يريد ان يأخذك على محمل الجد، ويعتبرك متطفلاً على مسائل ليست في صلب اختصاصك، خاصة وانه معروف عن الأكاديميين الفرنسيين تأطير أبحاثهم وتحديد مجالاتها؟

ـ أنا أستاذ جامعي في «معهد الدراسات السياسية» في باريس، وقد ترجمت كتبي إلى لغات كثيرة. وكتابي «النبي وفرعون» الذي صدر عام 1984 كان الأول من نوعه حول الحركات الإسلامية في مصر، وكذلك كتابي حول ولادة الهوية الإسلامية في فرنسا المعنون «ضواحي الإسلام» وصدر عام 1987. لكنني أردت بعد ذلك ان أوسّع أفق أبحاثي وكتبت «ثأر الله» كمقارنة بين الحركات الإسلامية المتطرفة الإسلامية والمسيحية واليهودية، وبما انه صدر أثناء حرب الخليج الأولى فقد وجد صدى واسعاً رغم ان لا علاقة له بصدام حسين. ثم كان «الله في الغرب» وبعده «جهاد» الذي يبحث تاريخ الحركات الإسلامية في العالم منذ 25 سنة. وبعكس ما يقوله الحساد فثمة خيط يربط أعمالي جميعها، لأنني أعود لأطرح الموضوع نفسه وإنما من زوايا مختلفة.

* أي انك على علم بما يقال حولك؟

ـ طبعاً وأعرف ان ما أكتبه يجد لدى البعض المقت، ولكني لا أعبأ بذلك وأقول رأيي بصراحة. فأنا أستاذ جامعي وسأبقى كذلك حتى موتي أو ذهابي إلى التقاعد. وسأحتفظ بحريتي في التعبير. لقد قلت في إحدى جلسات «مؤتمر الفكر العربي»، الذي نجتمع هنا في بيروت بمناسبة انعقاده، ان العرب لم يفهموا شيئاً، وتقصّدت ان أكون استفزازياً كي أثير ردود فعل. وأعتقد ان أغنياء العرب تحديداً لم يدركوا لغاية اليوم أن لهم سفراء فوق العادة في أوروبا، وأقصد بذلك المهاجرين الذين يعيش جزء كبير منهم في فرنسا. وبدل ان يساعد هؤلاء ويدعموا كي يستطيعوا الاندماج في المجتمع وتحقيق تطورهم الاجتماعي ويتحولوا إلى جسر بين أوروبا والعالم العربي، ويسهموا في إلحاق العرب بركب الحداثة بأساليب مناسبة عوضاً عن فرضها من فوق، نجد ان المساعدات تذهب إلى مجموعات معينة. وبالنتيجة فإننا نشاهد تصاعد موجات المطالبة بالحجاب، ورفض الرجال عرض نسائهن على أطباء رجال في المستشفيات الفرنسية.

* وكأنك تريد ان تحمل العرب مسؤولية سلوك أناس هم في نهاية المطاف فرنسيون، ولدوا في فرنسا، وتعلموا في مدارسها. أوليس عدم اندماج هؤلاء هو بالدرجة الأولى فشلاً للنظامين التعليمي والاجتماعي الفرنسيين؟

ـ لا نستطيع ان نتحدث عن فشل، لأن هناك حالات نجاح مهمة لا يجب نكرانها، ولكن ليس بالقدر الكافي. وأود ان أقول ان العالم العربي يعاني تجمداً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، أو ما يسميه ناصيف حتى «انسدادات فكرية». وفي فرنسا يكثر الكلام عن الجمعيات الإسلامية المتشددة على قلتها، وذلك لأنها تأخذ الحوار حول اندماج المهاجرين رهينة. ولهذا أعتقد ان جاك شيراك محق في تأليف الهيئة عن العلمانية وطلبه تقريراً حول ما يحدث لاتخاذ الإجراءات اللازمة، وتفادي منطق الاحتدام بين الجاليات الذي بدأت ترتفع وتيرته في فرنسا لا سيما بين العرب واليهود وما نتج عن ذلك من أعمال عنف. لقد استمعت الهيئة إلى 130 شخصاً وما حكوه كان مثيراً للقلق. لا بد من التذكير انه في كل مرة يخرج متطرف مثل طارق رمضان ليتكلم يربح جان ماري لوبن (زعيم اليمين المتطرف الفرنسي) واحداً في المئة إضافية في استطلاعات الرأي. وجان ماري لوبن من الراغبين في السماح بالحجاب لأنها وسيلته لتمييز المسلمين عن غيرهم. انه مع الاسلاميين يلعبون اللعبة ذاتها. وإذا لم نكسر هذا المنطق فالنتيجة ستكون درامية على الجميع. لذلك أقول للعرب انتبهوا أوروبا تختلف عن أميركا بالنسبة لكم. اننا نتقاسم معكم مجالاً واحداً اما أميركا فهي آخر.

* لكن لم يثير الحجاب كل هذه الحساسية؟

ـ المسلمون يتحدثون عن حرية وضع الحجاب ويتناسون مبدأ آخر وهو «العدالة» بين الجنسين، وهو أمر اساسي بالنسبة لنا. فالفتاة التي لا تريد ان تضع الحجاب في مناطق يسكنها مسلمون تشتم وتهان. وهناك فتيات مسلمات يجبرن على أمور لا يردنها، وتحدث قصص مأساوية بسبب القمع والإلزام. وهذا غير مقبول في فرنسا.

والقانون يذهب باتجاه حماية الضعفاء، وأولئك الذين اختاروا الاندماج والعلمانية، لا الانغلاق على أنفسهم.

* عملت طويلاً على تاريخ الحركات الإسلامية. وتعرف اليوم ان ثمة اتجاهين متباينين لإنهاء عنف المتطرفين الإسلاميين، اتجاه يرى الحل بالسلاح وآخر يدعو للحوار، فما هو رأيك؟ ـ تاريخياً، تصبح الحركات الإسلامية قوية جداً حين تتمكن من استمالة مجموعات تنتمي إلى طبقات مختلفة . فمثلاً الخميني في إيران استطاع ان يستميل الطبقة الوسطى وطبقة المحرومين معها، بواسطة اللغة الدينية التي خاطبهم بها، ليوحدهم في مواجهة عدو واحد هو الشاه. ثم تمت تصفية الفقراء بمساعدة صدام حسين، الذي كان صديقاً للغرب حينها، ليموتوا في حقول ألغام العراقيين. وقد وصلت السلطة في إيران إلى ما نراه اليوم. وخلال الثمانينات دفع بالمتحمسين الإسلاميين العرب إلى أفغانستان بتشجيع أميركي لأنه كان ثمة انطباع عند العرب ان هذه وسيلة لإضعاف خصمهم الإيراني والاتحاد السوفيتي معاً. لكن هؤلاء المقاتلين لم يموتوا هناك وعادوا إلى بلدانهم الأصلية لتحدث في هذه اللحظة القطيعة بين البرجوازيين المعتدلين وهذه الفئات التي لازمت تطرفها. وهذا ما نشهده اليوم في تركيا فأردوغان وحزبه إسلاميون انخرطوا في السلطة لكنهم تركوا جزءاً من أيديولوجيتهم على الأرض. مختصر الكلام ان الراديكاليين أعلنوا الحرب وظنوا ان بمقدورهم كسب الناس، لكن ما حصل ان الناس خافوا العنف وانفضوا عنهم، هذا ما رأيناه في مصر والجزائر مثلاً. وكنتيجة لهذا الفشل بحثوا عن استراتيجية بديلة وهي الإرهاب. وهذا يحتاج إلى مجموعات صغيرة منغلقة على نفسها، تقوم بأعمال استعراضية هدفها إضعاف العدو البعيد قبل القريب من خلال التأثير النفسي بالدرجة الأولى، وإحداث صدمة عند الراي العام. إذ ستقول الجموع علينا ان نلحق بهؤلاء لأنهم يستطيعون إضعاف أعدائنا. فما حدث في تركيا من انفجارات مؤخراً من صنع أيدٍ إسلامية متطرفة وموجهة ضد إسلاميين معتدلين في الحكم. أي ان ثمة من قبل التنازل عن أفكاره ويقبل العلمانية وهناك من قرر دخول دوامة العنف. وأكاد أقول ان هذه الفئات لم تكن لتختار هذا الطريق لولا علمها المسبق بأن ما ستفعله سينقل تلفزيونياً.

* هذه تهمة للإعلام، وكل ما في الأمر ان الجماعات المتطرفة تستفيد من معطيات العولمة وتوظفها لصالحها.

ـ بطبيعة الحال. إذ نلحظ ان تفجير مركز التجارة العالمي حضّر ليكون كفيلم من هوليوود حين تسقط الأبراج الجهنمية. هم يعلمون جيداً ان الصورة تبقى في الذهن ولا تغادره، لذلك تجدنا لا نتذكر جيداً انفجار بالي أو الكنيس في تونس.

* انها إعادة استخدام لسلاح العدو وتوجيهه ضده.

ـ نعم استخدام لغة السينما لملامسة مشاعر الناس، ولكن هل يكون الجواب بالحرب أم بالحوار فأقول بأن هذا يستتبع طبيعة الحركة، خاصة وان الحركات الإسلامية ليست موحدة، لا بل ان واحدتها تضرب الأخرى. إنما ما أعرفه ان السلاح الأميركي بات يطرح مشكلة جدية. فالأميركيون مقتنعون ان بإمكانهم تحطيم قواعد الإسلاميين بفضل دقة صواريخهم الموجهة ودون ان يمسوا حياة الشعوب، وهكذا يتخلصون من الأعداء ويكسبون محبة الشعوب. وهذا خطأ استراتيجي كبير. إذ تبين ان هذه الأسلحة عقيمة تماماً في العراق، وتحول جنودهم هناك إلى أهداف يصطادها «المقاومون» أو «الإرهابيون»، والتسمية لن تغير من الأمر شيئاً. مشكلة الأميركيين انهم ما يزالون يعملون ويفكرون وفق استراتيجية ورثوها من أيام الحرب الباردة، ولا يبدو لي ان لهم المعرفة العلمية أو الثقافية بشعوب المنطقة.

* المشاكل مع هذه الحركات داخلية أيضاً في دول عربية عدة؟

ـ لأن الحكومات العربية مارست، وعلى مدى طويل، سياسات مزدوجة مع الحركات الإسلامية، واستخدموا معهم العصى والجزرة. فالدول العربية بحاجة للديمقراطية كي يكتسب الحكام شرعيتهم. فكلما ضعفت الشرعية زادت السلطوية. وكلما ازدادت السلطوية حاول المعارضون اختراق الحكم بما يتاح لهم. والإسلاميون يمتلكون سلاحاً سهلاً فهم ليسوا بحاجة لبرنامج عمل، ويكفيهم ان ينادوا بتطبيق الشريعة من دون أي ايضاحات او تفسيرات ليلتف الناس حولهم.

* تريد ان تقول ان الحركات الإسلامية تقوى بسبب فراغ فكري أو ثقافي ما.

ـ نعم دعوتهم تستطيع ان تملأ هذا الفراغ بمجرد رفع بعض الشعارات. نتحدث هنا عن فراغ لأن العالم العربي وبحسب الأرقام يهبط على كل المستويات لأسباب يصعب فهمها، لكن المسؤولين مهتمون بفهم ما يحدث. وكل يبحث بطريقته عن الحل.

* إذا كان الحل العسكري الأميركي غير قادر على الانتصار في ما يسمى الحرب على الإرهاب للأسباب التي ذكرتها، فهل يمكن ان ننتظر مقابل كل تمدد اميركي جديد، المزيد من الإسلاميين وربما المزيد من العنف في المنطقة.

ـ التطرف يغذي التطرف. لذلك لا بد من الإصرار على حل القضية الفلسطينية.

ومشكلة المحافظين الجدد هي إيمانهم بأنهم يعيشون نهاية التاريخ. وفي نهاية التاريخ عند فوكوياما لا يبقى ما يمكن ان يتفاوض عليه، لأن الناس جميعهم متفقون، يأكلون «الفاست فود» ويتكلمون الإنجليزية، ويريدون أن يصبحوا اميركيين. أما ما نشهده اليوم فهو مقاومة عالمية شديدة للنمط الواحد. لقد ذهل الأميركيون لضخامة المظاهرات ضد الحرب على العراق، علماً بأنه لا أحد سوى بعض المجانين يحبون صدام حسين. لكن الحرب بيعت بشكل سيئ، وقد أهملوا الأمم المتحدة، وبحثوا عن مبررات أخلاقية، والمشكلة الكبرى اليوم ان أحداً لم يجد هذه الأسلحة.

* نفهم من ذلك اننا ندور في حلقة جهنمية، والعرب تحديداً يريدون إصلاحات سريعة وفعالة، فمن أين نبدأ؟

ـ بحسب خبرتي كأستاذ جامعي أرى ان الأولوية هي لاستثمار النخب والطبقة الوسطى. فالنخب تهاجر لأنها لا تستطيع ان تلعب دوراً إلا في حال كان الشخص ينتمي لعائلة كبيرة ونافذة. فخريجو معهدنا من العرب، وأتحدث هنا عن المغاربة تحديداً، بعد ان يحصلوا على واحدة من أهم الشهادات في فرنسا، لا يعود منهم إلا أولاد العائلات الكبيرة، أما متوسطو الحال فيبقون في فرنسا لأنهم يعرفون انه رغم العنصرية والتمييز سيتمكنون من الاستفادة من نظام يسمح للأفراد بتطوير أنفسهم داخله، اما العودة إلى الوطن فتعني العمل كشاويش عند أحد النافذين. فقد النخب وقتل الأمل عند الناس معضلة كبرى في العالم العربي.

* لكن الكثيرين يرددون ان الإسلاميين ليسوا كلهم فقراء.

ـ صحيح، إنما يروى ان أيمن الظواهري ابن تلك العائلة الكبيرة كان لا يحتمل او يتقبل ان يرى نفسه يحكم من قبل أنور السادات، هذا الرجل القادم من طبقة شعبية، لأن الاعتراف بالكفاءة، وقيمة ما يستطيع ان يقدمه الآخر ما يزال غائباً لذلك أرى ضرورة استعادة النخب من مهاجرها والإفادة منها، وتعزيز الطبقة الوسطى وجعلها قادرة على مراقبة السلطة السياسية. اما حالياً فالمثقفون يهربون والشباب يبحثون عن فيزا، والسلطة تديرها فئة صغيرة من السياسيين.

* تقول ان العرب لم يفهموا شيئاً والأميركيون أيضا، فهل فهم الفرنسيون ما عليهم ان يفعلونه؟

ـ لا، لأن العالم كله ما يزال يدور في فلك تلك العلاقة التي كانت تربط بين موسكو وواشنطن أيام الحرب الباردة. نحن بحاجة لإعادة ترتيب التحالفات. وفي رأيي ان رمز «اللافكر» الذي نعيشه اليوم هو خلطة بين «نهاية التاريخ» لفوكوياما و«صدام الحضارات» لهنتنغتون. الأول يظن ان العالم سينتهي بأن يكون كله أميركيا. ولكن حين اكتشفوا أن ثمة ما لا يسير على ما يرام قالوا هناك عالم إسلامي موحد، معادٍ كله للغرب علينا ان نطوعه، وثمة غرب موحد في المقابل، هكذا طبق نظرية صراع الحضارات. ومن هنا أتت فكرة الخير والشر. وأوروبا لا تستطيع ان تجاري هذا المنطق لأن فيها عرباً كثراً. وهذه التقسيمات تنهار أمام الواقع الأوروبي.

* ما يحدث ليس صداماً لحضارات، فكيف يمكننا ان نسميه؟

ـ انه «الوعي الخاطئ» من هنا أهمية العمل والبناء حتى لغير الجادين من الناس «امثالي».