رحلة فيلبي إلى أرض مدين ..

مكتبة العبيكان تطبع الإصدار الاثني عشر من سلسلة كتب عبد الله فيلبي

TT

شهدت الحضارة الإنسانية تطورات تاريخية بحسب الحقب الزمنية المختلفة التي شهدت مولد كل عصر حضاري .كما أن كثيراً من الحضارات ارتبطت بالأرض التي شهدت ازدهارها وعلو شأنها حتى عرفت بها مما جعل المتأخرين يجدّون للبحث في هذه الأرض بقصد التعرف على تلك الحضارة التي سادت ثم بادت، بل إن بعض المناطق شهدت مولد عدد من الحضارات مما جعلها أكثر استهدافاً بالبحث والتحري ومن ذلك أرض مدين التي يرجع أوج مجدها إلى عهود إبراهيم وموسى وسليمان، بالإضافة إلى نبوخذنصر البابلي الذي كانت تيماء عاصمته الصيفية وملوك اللحيانيين والمعينيين والأنباط الذين حكموا عرب عاد وثمود وسيطروا على طريق التجارة الذي سارت في دروبه التوابل والعطور من اليمن السعيد إلى مراكز الحضارة العظمى في الأيام الخوالي. وقد اشتهر باحثون ورحالة بحب المغامرة لاستكشاف الحضارات السابقة وأرض مدين بالذات ومن أهم هؤلاء ممن قدموا معلومات جغرافية متقدمة عن تلك الأرض مثل تشارلز داوتي وغوارماني وأوغسطس فالن وألويس موسل وتشارلز هوبر وهاري سانت فيلبي (عبد الله فيلبي) في كتابه (أرض مدين). وقد قامت مكتبة العبيكان بطباعته ضمن اثني عشر إصداراً من سلسلة كتب فيلبي ونشرته هذا العام بتعريب الدكتور يوسف مختار الأمين وبمراجعة وتدقيق عبد الله بن محمد المنيف . يمكن وصف منهج فيلبي في كتابه بأنه يرتكز على أسلوب السهل الممتنع في وصف أحداث رحلته إلى أرض مدين ـ التي تمت بين نوفمبر 1950 ومارس 1953 ـ مع صَبْغِهِ بصبغة قصصية سلسة تطرد السأم عن القارئ ولاسيما عند تطرقه للتفصيلات الدقيقة والمواقف الطريفة التي حصلت له أو لمرافقيه كما يسهل أن يلحظ القاري اجتهاد فيلبي في التعليل والتحليل لمايمر به من أسماء وحوادث ومن ذلك ماذكره عن تسمية الجبل الأبيض وقبر الشيخ كما ظهرت الخلفية التاريخية للمؤلف ولاسيما عند حديثه عن التاريخ القديم لتيماء وتبوك وقلعة الحاج وغير ذلك، وحرصه على الوصف الدقيق للشواهد الأثرية والمعالم من أودية وجبال وسهول وعيون وفوهات بركانية وأخاديد ونباتات وطيور وقصور وطرق وغيرها والتحدث بإسهاب عن إحداثياتها الجغرافية، بل إنه تعدى ذلك إلى وصف الواقع الاجتماعي والحضاري للمناطق التي زارها بدقة متناهية مع التصريح بما يراه من تصورات لتطويرها كما استعان في كتابه بعدد من الصور التي التقطها بعدسته الفوتغرافية لكثير من المواقع والآثار التي اطلع عليها مع خريطة جغرافية لطريق الرحلة ومعالمه الهامة مما جعل المعلومات التي قدمها فيلبي في كتابه (أرض مدين) أدق وأشمل من كتابات الرحالة الآخرين ولاسيما تحريه الدقة في وصف النقوش القديمة والنصوص الثمودية والنبطية والمعينية وحرصه على الوقوف عليها بنفسه.

ومما زاد أهمية وصف فيلبي لهذه النقوش والنصوص لجوؤه إلى المقارنة الدقيقة بين ما رآه بنفسه في رحلته وبين وصف من سبقه من الرحالة في كتبهم لما رآه مع الإشارة إلى ما طرأ عليها من تغيرات بسبب العوامل الجغرافية أو نتيجة الاعتداءات البشرية نتيجة للطمع المادي مما جعل وصفه لهذه النقوش والنصوص مصدر ثراء حقيقي للبحوث والدراسات العلمية المخصصة لهذه المنطقة. وملحوظة أخرى تسجل لفيلبي في كتابه (أرض مدين) أنه برغم إتمامه رحلته بدعم من الملك عبد العزيز وبتسهيل من المسؤولين في المناطق والبلدان التي مرّ بها بناء على ذلك الدعم، فإنه لم يجامل في تقاريره التي ضمنها كتابه الحكومة المركزية فقد انتقدها لتأخرها في تطوير وتحديث بعض المناطق والطرق التي زارها وإن أرجع ذلك أحياناً كثيرة إلى سلبية بعض المسؤولين تجاه عرض احتياجات بلدانهم والمطالبة بتطويرها، ولذا حظي منه عبد الله الشنيفي أمير تيماء بالثناء لجهوده في تحديث بلده ووصفه بأنه من الأفراد الساعين للتطور. كما لم ينسَ فيلبي أملاً كرره في أكثر من كتاب ـ ومنها كتابه هذا ـ وهو المطالبة بإحياء سكة حديد الحجاز إلى الشام لمايراه فيها من إنعاش لاقتصاديات البلدان التي تمر بها ولما ستوفره من تسهيل للوصول إلى التراث الحضاري الذي حرم من مشاهدته كثير من الناس وبعضهم من المختصين لصعوبة الوصول إليه بسبب الطبيعة الجغرافية والظروف الاجتماعية.

عند تصفح كتاب (أرض مدين) سنجد أنه قسم المؤلف كتابه بعد المقدمة إلى أحد عشر فصلاً كان الفصل الأول منها عن رحلته من المدينة إلى خيبر وخصص الثاني لخيبر ومحيطها والثالث لطريقه من خيبر إلى تيماء والرابع لتيماء وماجاورها والخامس من تيماء إلى تبوك والسادس عن واحة تبوك والسابع عن روافة والحرّة والثامن عن شَرَوْرَى وقريّة والتاسع عن هضبة حسمى والعاشر عن وادي مدين والحادي عشر عن ساحل مدين. ثم خصص ملحقاً عن قبور الأنباط في مغاير شعيب مدين وقارن مجموعاته بالمجموعات التي ذكرها موسل مركزاً على حالتها الراهنة عند زيارته وفي هذا الملحق نبه فيلبي إلى ما انفرد به عن موسل وفي نهاية الكتاب كشاف ثري بالأعلام والأسماء والقبائل والأماكن والمواضع والبلدان والجبال ونحوها أثرى مادة الكتاب وسهّل للباحث والقارئ الاستفادة من المعلومات الغنية التي تضمنها. ومن الجدير بالتنويه إليه استدراك مراجع الكتاب عبد الله المنيف على فيلبي بعض العبارات التي لا يصح إيرادها مثل تشكيك فيلبي في صعود موسى جبل حُراب، وتصحيح بعض المعلومات التاريخية كنسبة فيلبي قلعة الأزلم إلى السلطان سليم وتصحيح المراجع لهذه المعلومة بنسبتها إلى السلطان محمد بن قلاوون وتسجيل القراءة الصحيحة للنص المنقوش على القلعة الذي يثبت صحة هذه النسبة من واقع المصادر الموثوقة التي نشرته. وفي الجملة يظل كتاب فيلبي من أكثر المصادر المكتوبة عن شمال المملكة العربية السعودية شمولاً ودقة نظراً لإقامة المؤلف الطويلة في المملكة وقربه المستمر من الملك عبد العزيز مما أتاح له فرصاً ووقتاً أفضل من غيره للبحث والاطلاع وتسجيل نتيجة ذلك كله في كتبه الكثيرة يضاف إلى ذلك مايملكه فيلبي نفسه من خلفية جغرافية كبيرة عن القياسات وخلفية علمية عن كيفية وصف وقراءة ونقل النقوش والنصوص الأثرية.

كاتب سعودي