جرح كلب سائب ومصائب تونسي في العراق

يوميات مؤلمة لأستاذ جامعي خلال حربي 1991 و2003

TT

في كتابه الصادر حديثا تحت عنوان: «جرح الكلب السائب ـ يوميات العراق 1991 و2003» يأخذنا الناقد الادبي والسينمائي التونسي د. الهادي خليل الى العراق ايام الحرب التي شنت ضدها بعد ان غزا جيشها الكويت في صيف 1990، وأيام الهجوم الامريكي ـ البريطاني عليها خلال ربيع العام 2003. وقد اختار الكاتب عنوان مؤلفه من الحادثة التالية: ففي ليلة السبت الموافق لـ 22 مارس/ آذار الماضي، كان الهادي خليل مختبئا مع البعض من العراقيين في احد المخابئ تجنبا للقصف الجوي الامريكي عندما برز امامهم كلب متعب وحزين. ولقد حاول شاب عراقي طرده، تدخل الآخرون ليثنوه عن ذلك. وعندئذ تمدد الكلب على الارض الباردة. وكانت قائمته اليسرى مجروحة. وكان يلهث. ولما جيء له بالماء والطعام رفضهما ليخلد للنوم بعد ذلك بقليل. وقد يكون هذا المشهد اثر كثيرا في الهادي خليل، لذا اختار العنوان المذكور لكتابه وكان يريد ان يقول لنا انه تماهى مع ذلك الكلب السائب المتعب والمريض الى درجة ان صورته ظلت عالقة بذاكرته وهو يسترجع ذكرياته خلال الفترتين اللتين امضاهما في العراق واللتين كانتا حافلتين بالفواجع وبالاحداث الجسيمة.

وكان د. الهادي خليل الذي اعد اطروحة دكتوراة دولة عن الكاتب الفرنسي الكبير جان جينيه واصدر العديد من الكتب القيمة عن فن الصورة وعن السينما عموما، قد سافر الى العراق اواخر الثمانينات ليدرس اللغة الفرنسية في جامعة المستنصرية. ومنذ الايام الاولى احب البلاد واهلها، وارتبط بعلاقات حميمة بطلبته ومعهم اسس ناديا للسينما كان يعرض فيلما كل نهاية اسبوع تعقبه نقاشات حول موضوعه، وحول تقنيات الاخراج التي اعتمدها مخرجه وحول جوانبه الاخرى. وفي صيف عام 1990، قرر صدام حسين غزو الكويت، فاضطرب العراق، واضطرب العالم بأسره، ولاحت في الافق مخاطر جديدة تتهدد البلاد والعباد. غير ان جامعة المستنصرية ظلت هادئة كما لو ان شيئا لم يقع. ومتحدثا عن ذلك، يكتب د. الهادي خليل قائلا: «ريح من الاغتباط تبدو وكأنها تهب على الجامعة في نهاية شهر سبتمبر/ ايلول 1990. في الكافتيريا، الجو رائق، الدروس تنتظم بشكل طبيعي ولا احد يتلفظ بتعليق واحد عما حدث في الكويت قبل وقت قليل». غير ان طالبا انيقا يعترض د. الهادي خليل وهو خارج من الجامعة ليطرح عليه السؤال التالي: «هل انت موافق يا استاذ على ما فعله صدام؟»، وعندما يرد د. الهادي خليل انه موافق، تحتد لهجة الطالب ويرد على استاذه قائلا: «كيف توافق على ما وقع؟ هذا شيء مستحيل! انت الاستاذ تتعامى ايضا عن الحقيقة؟ ان احتلال الكويت فعل غير مسؤول والعراقيون سيدفعون الثمن غاليا!».

وكان د. الهادي خليل يلقي درسه لما دخل الى قاعة الدرس ثلاثة صحافيين غربيين طالبين القاء اسئلة على الطلبة بخصوص غزو الكويت. وفي البداية كان هناك تردد وتحفظ في الاجابة عن الاسئلة التي طرحت. غير ان طالبة تدعى جانيت تشجعت وقالت: «نحن لا نريد الحرب. لقد تعبنا منها. والعراق بلد غني بما فيه الكافية لذا يمكن القول ان الكويت لن تقدم لنا اي شيء. واذا ما اندلعت الحرب، فإن عائلتي سوف تغادر العراق نهائيا. لنا عائلة في النمسا».

ومعترضا على اقوال المسيحية جانيت رد طالب قائلا: «نحن لسنا خائفين، اكيد ان هناك 33 بلدا ضدنا، غير ان الشعوب العربية معنا. والعراق سوف ينتصر على قوى الشر». ولكن ثمة طالبة ستدفع الثمن غاليا. تلك هي سناء، البالغة من العمر عشرين عاما. وفي تصريحها للصحافيين الاجانب قالت: «الكويت ارض عراقية تاريخيا، لكنها فخ نصبه لنا الاعداء لكي يغزو بلدنا بهدف الاستحواذ على ثرواتنا. ونحن نطلب من رئيسنا العزيز ان يسحب الجيش العراقي من هناك قبل فوات الأوان!». بعد هذا التصريح الصريح والمعقول، اختفت سناء العاشقة للمطرب اللبناني راغب علامة وتحت وطأة الشعور بالذنب، يكتب د. الهادي خليل قائلا: «حتى اليوم انا اتساءل: من اين كانت تأتيني الرغبة في ان ارسل طلابي الى النار بعد ان اضعهم وجها لوجه مع الصحافيين الاجانب؟ (..). كان علي ان امنع سناء من الكلام غير انني لم افعل ذلك (..) نعم احس انني مذنب، غير انه لا احد هناك لامني على ما فعلت او هو ادلى بمجرد ملاحظة حول ذلك».

وعن الحرب التي عاشها العراق في عام 1991، كتب د. الهادي خليل يقول: «ماذا تبقى لي من الحرب التي كنت شاهدا عليها، قريبا وبعيدا؟ اجساد. لا شيء.. غير اجساد، تكشيرة، ارتجاف الاجفان، خطوات فوضوية ومسعورة لرجال وجدوا انفسهم فجأة في مخبأ غير مأمون مثل ذبابة تجد نفسها فجأة في غرفة مغلقة الابواب والنوافذ». ولكن رغم الحرب يحاول د. الهادي خليل مواصلة حياته السابقة عندما كانت بغداد آمنة، فهو يتصل بطلبته، الفتيات منهم بالخصوص ويذهب الى الاسواق ويلعب الورق مع العمال التونسيين المهاجرين الى العراق، ويرتاد المقاهي، خصوصا المقهى الذي يجلس فيه شيوخ طاعنون في السن يستمعون الى اغاني ام كلثوم طول الوقت. ثم تتوقف الحرب، ويعود د. الهادي خليل الى جامعة المستنصرية لمواصلة عمله وذلك صبيحة يوم 28 ابريل/نيسان 2001. وهو يشعر انه سعيد بعد الايام الكالحة التي امضاها تحت القصف. وعند دخوله الى قاعة الدرس، يأخذ الطبشورة ويكتب على السبورة السوداء: «تهور» محاولا من خلال هذه الكلمة التعبير لطلبته العراقيين عن رأيه في الحرب التي خاضها صدام حسين ضد قوات التحالف. وعند انتهاء الدرس تقترب منه طالبة تدعى جانيت وتقول له مستاءة: «لماذا كتبت على السبورة تلك الكلمة يا استاذ؟ نحن نخشى على حياتك. وانصحك بألا تكرر مثل هذه الفعلة.. رجاء!» بعد ذلك بثلاثة ايام، يشاهد د. الهادي خليل على شاشة التلفزيون صدام حسين الذي كان آنذاك يحتفل بعيد ميلاده الرابع والخمسين، جالسا فوق «فوتاي» من النوع الرفيع محاطا بأعوانه، بينهم لطيف نصيف جاسم وزير الاعلام آنذاك، وكان امامه اطفال يغنون ويرقصون مرددين اسمه. وامام هذا المشهد يقول د. الهادي خليل انه شعر بالغثيان.

في ربيع عام 2003، قرر د. الهادي خليل العودة الى بغداد بالرغم من ان القوات الامريكية والبريطانية كانت على اهبة غزو العراق. لماذا؟ هو كان يرغب في ان يرى تلك البلاد التي احبها، واحب اهلها في الزمن الصعب، زمن الحرب والفواجع. استقل طائرة من تونس الى دمشق ومن هناك استقل تاكسي حملته الى العاصمة العراقية بغداد على الحدود السورية ـ العراقية، يعاين ان هناك اعدادا هائلة من العراقيين تغادر البلاد خوفا من الحرب، غير انه يواصل رحلته غير عابئ بشيء. عند وصوله الى بغداد، وذلك يوم 18 مارس/ آذار 2003، يجد نفسه امام مظاهرة ضخمة معادية للحرب. وعندما يتجول في بغداد، يرى ان الكثير من المقاهي والمطاعم فارغة، وفي اليوم التالي يذهب الى جامعة المستنصرية، حيث كان يدرس، فيجد ابوابها مغلقة، وفي ذات اليوم، تهب عاصفة قوية على بغداد، فيزداد الوضع سوءا، ويشعر د. الهادي خليل ان هناك كارثة على وشك الوقوع. في اليوم الثالث، يتجول في الاسواق ليجد اثمان الخضر والغلال مرتفعة بشكل جنوني، كما يشاهد ايضا اعدادا وفيرة من العراقيين تغادر بغداد الى وجهات مجهولة. وعندما تندلع الحرب، يواصل د. الهادي خليل تحركاته داخل بغداد. ونحن نجده في الاسواق وفي المقاهي وفي المخابئ وفي الاحياء الشعبية، بل في المقابر ايضا، اذ انه حضر مع صديق عراقي جنازة أحد القتلى الذين سقطوا خلال عمليات القصف الجوي، بل انه يحضر مباراة لكرة القدم يقرر المتفرجون اثرها تنظيم تظاهرة ضد العدوان الامريكي ـ البريطاني.

يوميات د. الهادي خليل في العراق وثيقة جد هامة، ذلك ان صاحبها تجنب الافتعال والمبالغة، وجهر بأحاسيسه الحقيقية والصادقة تجاه المحن التي تجرعها الشعب العراقي خلال الحربين المدمرتين اللتين شهدتهما بلاده بسبب حماقات قائده صدام حسين.

* جرح الكلب السائب ـ

* يوميات العراق 1991 ـ 2003

* المؤلف: د. الهادي خليل