دمشقية قصت ضفيرتيها لتحصل على وظيفة

أسست اللبنانية جوليا طعمة صحفاً ومجلات في العشرينات وافتتحت صالوناً أدبياً

TT

في العام 1900 نالت اللبنانية جوليا طعمه شهادة التعليم من مدرسة الشويفات، فرشحها القس طانيوس سعد للتدريس في فلسطين، لكن المدير الإنجليزي للمدرسة عارض تعيينها لاعتقاده أن شعرها الأشقر الطويل سيفتن الطلبة وربما الأساتذة أيضاً، فقصت جوليا ضفيرتيها وحصلت على الوظيفة. نشأت جوليا في بيئة ريفية متوسطة الحال، عائلتها من سكان بلدة المختارة في جبل الشوف التي تضم عائلات درزية من آل جنبلاط ومن الكاثوليك والموارنة، كانت عائلتها على احتكاك مع المرسلين فاعتنقوا البروتستانتية وتوجهوا نحو التعلم. تعلمت جوليا في المختارة بمساعدة الإرساليات البريطانية. وتابعت وهي في العاشرة من عمرها، دراستها في المدرسة الأميركية للبنات في صيدا، ثم انتقلت إلى مدرسة الشويفات لتنال شهادة في التعليم وكان عمرها 18 سنة. بعدها درست في مدرسة «شفا عمرو» في فلسطين، لن تطول إقامتها هناك ستعود بعد سنتين إلى لبنان للاعتناء بأمها في مرضها الأخير. بعد موت الأم ترعى جوليا عائلتها وتُزوج أباها. ثم تلتفت إلى التدريس فتعلم في عدة مدارس ومنها مدرسة الفرندس في برمانا. أما الفرصة التي كانت بانتظارها فهي قيام جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بخطوة جريئة، إذ عرضت على جوليا طعمه الفتاة المسيحية تسلم إدارة المدرسة الأولى للبنات، لثقافتها العالية وخبرتها الوافرة في التعليم. ولم تكن موافقة جوليا سهلة في ذلك الزمن، بل كانت خطوة بمثابة المغامرة، أن تقبل صبية مسيحية العمل في محيط إسلامي وفي قلب البسطة والمصيطبة، قبولها حاز على تقدير الجميع. فأصبح لها تلميذات تعلقن بها، كانت في دروسها توجههن نحو قراءة مجلتي المقتطف والهلال والزهور المصرية، والحسناء البيروتية. وتفتح أعينهن على مكارم الأخلاق السامية بأسلوب جذاب ورائع، فيتنافسن في إرضائها، حسب عنبرة سلام الخالدي. وسوف يعجب بها الشاب السني بدر دمشقية وهو واحد من أعضاء جمعية المقاصد الإسلامية ومن أبرز الوجوه الإسلامية المتنورة في بيروت ويطلب الزواج منها. لكن جوليا ستقاوم رغبته لما توقعته من عقبات اجتماعية وعائلية وطائفية، وتضطر إلى ترك المدرسة والذهاب إلى مصر، ثم إلى أوروبا، هرباً من إلحاح العاشق الشاب، لكنه سيلحق بها إلى مصر وأوروبا، وتعود ليتزوجا في بيروت. احتفظت جوليا بدينها وعاشت طوال حياتها مسيحية مؤمنة مع زوجها المسلم المتدين، الذي كان من الشخصيات البيروتية المعروفة، فقد كان رئيس بلدية مدينة بيروت ورئيس جمعية «أصدقاء الشجرة» حتى وفاته سنة 1952. ربت جوليا كل أولادها على الإسلام، وعلمتهم الافتخار بدينهم وعقيدتهم وتراثهم، وعلمتهم أن الدين هو الإيمان، والإيمان هو التسامح. وماتت عام 1954 في بيتها في شارع بلس واحتفل بالصلاة عليها في الكنيسة الإنجيلية.

وقف زوجها بدر دمشقية إلى جوارها وشجعها على تحقيق حلم حياتها بإصدار مجلة شهرية (مجلة المرأة الجديدة) أتبعتها بمجلة أسبوعية للأطفال (سمير الصغار) ومجلة أدبية أسبوعية (النديم) استمرت في إصدار مجلتها الشهرية مدة ستة أعوام 1921 ـ 1926 وتوقفت لأسباب مادية. كان هدف المجلة ولسان حالها: بث روح التربية الاستقلالية وتحسين الحياة العائلية وترقية المرأة السورية أدبياً وعلمياً واجتماعياً. وحاولت أن تجمع فيها بين الفائدة والمتعة، فاحتوت على مواضيع علمية وأدبية واجتماعية وفنية واقتصادية ونسائية وبيتية. عُرف منزل جوليا طعمه دمشقية كصالون أدبي، كان من رواده أهم الشخصيات العربية في ذلك الوقت; آل زيدان ويعقوب وفؤاد صروف اللبنانيين المتمصرين، امير الشعراء أحمد شوقي، شاعر القطرين خليل مطران، العراقي جميل الزهاوي، السوري خليل مردم بك وفارس الخوري،والفلسطيني إبراهيم طوقان واحمد شاكر الكرمي واللبناني المهاجر أمين الريحاني واللبنانيون سليم سركيس وعيسى اسكندر معلوف وفيليب حتي وجبر ضومط وجبرائيل جبور... ومشايخ علماء ومطارنة وسياسيون وصحافيون، ونساء مثل هدى شعراوي وماري عجمي ومي زيادة وعنبرة سلام الخالدي. وفي بيتها الصيفي سيغني المطرب الشاب محمد عبد الوهاب أغنية «يا جارة الوادي» وكان برفقة الشاعر أحمد شوقي.

وقد انهمكت من سنة 1925 حتى 1935 في تحضير الاجتماعات النسائية وحضور المؤتمرات والنشاطات الاجتماعية، ومثلت المرأة العربية في المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر اسطنبول، وفي سنة 1947 نالت وسام الأرز المذهب من الرئيس بشارة الخوري. وكانت خطيبة مفوهة تعرضت للقضايا الوطنية وحضت على حب اللغة العربية وتغنت بالحضارة الإسلامية. وحرصت على توعية النساء من الطوائف كافة. كانت ضد الظلم ومع تحرير المرأة وعدم إخضاعها للحجاب والسعي إلى التحرر والاستقلال. واظبت جوليا على كتابة افتتاحيات مجلتها «المرأة الجديدة» طوال ست سنوات دونما انقطاع، تحت عنوان «إلى ابنة بلادي» خاطبت فيها المرأة الأم والزوجة والشابة، من خلال معرفتها بمشكلاتها الحياتية والاجتماعية، فدعت إلى حياة البساطة ونبذ الترف والإسراف وعدم الانسياق وراء تيار الموضة والتوجه نحو العلم والتعلم وتهذيب الأخلاق. وأن تحرير المرة لا يعني استرجالها والتفلت من جميع القيود. ولم تخل افتتاحياتها من وجدانيات ونظرات في الحياة، فتأثرت بالطبيعة وتغنت بحبها، ورأت الجمال جمال الروح والخلق، لا المظهر والمساحيق والأزياء والحلي. وميزت بين التجمل الذي يقع ضمن دائرة الأخلاق، والتهتك الذي يقع خارجها. وانتقدت المثالب الاجتماعية كالغيبة والنميمة، والمبالغة في الإطراء، كالكاتب النحرير والشاعر الفطحل والعالم العلامة; وكيل الألقاب بلا حساب مثل: أفندي وبيك وعطوفة وسعادة إلى غير ذلك من ضروب التملق. كما انتقدت أوضاع الزواج الخاطئة والظالمة والتكاليف الباهظة لجهاز العروس، وأرشدت الفتيات إلى مفاتيح الزواج السعيد، وتناولت موضوع التربية الجنسية بكل اقتدار ورهافة. برزت جوليا طعمة، كواحدة من أبرز رائدات النهضة النسائية في لبنان والعالم العربي، وواكبت بجهودها المبكرة ظهور النهضة النسائية في مصر، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الأدبية. فأسست جامعة السيدات التي ضمت النساء من مختلف الطوائف. ودعت إلى تحرير المرأة مع الحفاظ على الأخلاق، وتعليم الفتيات ومنح النساء حقوقهن واحترام دورهن في بناء الأسرة وتربية الأولاد والعناية بهم ورعايتهم. والدعوة لممارسة المرأة لحقوقها السياسية بالحصول على حق الانتخاب العام، وإن لن تتحمس له كثيراً، والقيام بالأعمال التي يقوم بها الرجال، ورفضت المدارس الطائفية. ولم تفتر دعواتها التحررية رغم الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة، الحكم العثماني الجائر، والحرب العالمية الأولى، المجاعة، والمشانق التي نصبها جمال باشا لقوافل الشهداء من المسلمين والمسيحيين. الثورة العربية، الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، فترة ما بين الحربين وظهور فكرة القومية العربية، الحرب العالمية الثانية، وقيام دولة إسرائيل.

* كاتبة سورية