وزير الخارجية الفرنسي يفكر كشاعر ويكتب كسياسي

حاولت في كتاب دو فيلبان الجديد العثور على تفسير لموقف فرنسا خلال المناوشات الدبلوماسية التي أدت إلى غزو العراق إلا أنني فشلت

TT

يصف المؤلف سياسة فرنسا بـ«تراجيدية واقعية»، وهو تعبير ادبي ربما يعني شيئا ما في دراسة الشعر ولكنه من الصعب تطبيقه على السياسة الخارجية. ويصف رؤيته العالمية «غير ملتزمة ذات مبادئ فردية منطلقة من الاجماع». والامم المتحدة هي «القلب النابض لعالم يتميز بالتعقيد، ومزج الهويات المتداخلة» يقضي التقليد الفرنسي من أي شخص يرغب في أن يكون شخصا مهتما بالسياسة أن يؤلف كتابا واحدا على الأقل.

وهذه الكتب التي تعرف بـ«الكتيبات»، هي في الغالب نصوص يكتبها كتاب ظل. (سيدة صديقة ألفت حوالي 30 كتابا من هذا النوع لسياسيين مختلفين من اليمين واليسار خلال العقد الماضي أو نحو ذلك). وهذه الكتب تبيع عادة مئات النسخ ومعظمها لأصدقاء المؤلف وأولئك الذين يسعون الى أفضاله عندما يتولى منصبا. والكتيبات تتلقى أيضا عروضا متحمسة من صحفيين مقربين من السياسي المعني. غير ان عددا قليلا من الناس يمكن أن يقرأوا «الكتيبات» ومن بين من يفعلون ذلك هناك عدد قليل ممن يمكن ان يبحثوا عن أمور جدية أو أفكار أصيلة.

ويأتي «الكتيب» في واحد من ثلاثة أشكال. الأول هو سيرة الحياة التاريخية. فالسياسي الطموح يكتب سيرة «رجل عظيم» يكن له الاعجاب غالبا. والشكل الثاني يتخذ صيغة المقالات التي يظهر فيها السياسي الطموح إتقانه للنصوص الكلاسيكية وقدرته على التعامل مع النحو الفرنسي ومعرفته الموسوعية في الفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع. أما الشكل الثالث لـ«الكتيب» فهو شكل الكراسة، وهو جنس يتمتع الفرنسيون بتقليد مديد فيه أكثر من أي بلد آخر. وهذا يتألف من نص قصير لا يزيد في الغالب عن مائة صفحة يمتع المؤلف، الذي يضع جانبا قيود البحث، بمسار منعطفات من المشاعر التي تثيرها حيوية الجدل.

(وبعد التقاعد يكتب السياسيون الفرنسيون الروايات. وآخر الأمثلة هي: الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان، ووزير الخارجية السابق فرانسوا دينياو ووزير الدفاع السابق فرانسوا ليوتارد ووزير العمل السابق ميشيل نوار الذي يكتب الشعر أيضا).

وفي كل أشكال «الكتيب» الثلاثة فان الشيء المهم هو الأسلوب. فالفرنسيون يحبون الأسلوب حتى على حساب المضمون غالبا.

ان علاقتهم مع لغتهم هي علاقة دينية تقريبا ان لم تكن علاقة تقديس أعمى. وفرنسا هي البلد الوحيد، حيث ملايين يساهمون في اختبارات الإملاء التي تبث حية على التلفزيون.

ويجري استقبال الفائزين، وهم من يرتكبون أقل الأخطاء، من جانب رئيس الجمهورية ويصبحون أبطالا وطنيين. (وفي احدى المرات شارك عضوان من الأكاديمية الفرنسية، وهي الهيئة التي تشرف على نقاء اللغة، في الاختبار وانتهوا الى ارتكاب كل واحد منهما ما يزيد على 12 من الأخطاء).

وبغض النظر عن شكل «الكتيب» يجب على المؤلف أن يتجنب قول أي شيء يمكن، عند ترجمته الى اللغة البسيطة، أن يعتبر بيانا بالمعنى المألوف للمصطلح. فاللعبة هي أن تقول الكثير بدون أن تقول شيئا محددا.

ويجب أن يجسد «الكتيب» معرفة المؤلف. وهذا هو السبب الذي يجعل الكتيب متضمنا الاقتباسات والتلميحات. ويجب عليك أن تذكر الكثير من الأسماء ما أمكنك ذلك لتظهر أنك تعرف الجميع من الفلاسفة الصينيين المبهمين الى علماء السيميولوجيا الباريسيين المعاصرين. ويجري السعي الى العمق عبر ركام من الصفات والظروف والمقاطع اللغوية المضافة. وتتضمن الصفحة النموذجية لـ«الكتيب» 12 اقتباسا و12 تلميحا وأسماء 12 أو أكثر من «المفكرين» من مختلف أنحاء العالم. والانطباع الذي يظهر هو أن المؤلف، العاجز عن التفكير بنفسه، يفكر بآراء شخص آخر. واهتمامي الاساسي في كتاب دو فيلبان الجديد هو العثور على تفسير للدور الذي لعبته فرنسا خلال المناوشات الدبلوماسية التي ادت الى غزو العراق من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في الشهر الماضي. ولا بد من القول، بعدما اطلعت على الكتاب، ان معلوماتي عن اسباب تصرف فرنسا بالطريقة التي تصرفت بها، لا تزال اقل مما كنت اعرفه من قبل.

وتوجد ثلاثة اسباب لذلك:

الاول هو اسلوب دو فيلبان. فهو يفكر كشاعر ويكتب كسياسي، أي بطريقة مفتوحة لعديد من التفسيرات. فمن بين آلاف الكلمات التي يستخدمها، من النادر نقل مقولة واضحة له. كما يستخدم فيلبان العديد من الصفات. فلم يسبق لمؤلف ان يدين بمثل هذه الطريقة للصفات والظروف.

وفيما يلي عدة امثلة: فهو يصف سياسة فرنسا بـ«تراجيدية واقعية»، وهو تعبير ادبي ربما يعني شيئا ما في دراسة الشعر ولكنه من الصعب تطبيقه على السياسة الخارجية. ويصف رؤيته العالمية «غير ملتزمة ذات مبادئ فردية منطلقة من الاجماع». والامم المتحدة هي «القلب النابض لعالم يتميز بالتعقيد، ومزج الهويات المتداخلة».

والسبب الثاني هو ان فيلبان يضع كل ما يقوله في عبارات عامة لا يمكن لأحد ان يجادله فيها.

فعلى سبيل المثال، يقول «ان القوة وحدها لم تعد كافية. ودمارها المحتمل يمكن ان يتعدى الامراض التي تسعى لمواجهتها.» كلام صحيح. ولكن كيف يمكن تطبيق ذلك على العراق؟ هل العراق اليوم اسوأ بدون صدام حسين؟

ويكتب ايضا «في الرؤية الفرنسية انت اقوى عندما تصبح اكثر تعددا». نعم ربما يكون ذلك صحيحا، ولكن لماذا لم تنضم فرنسا لحلفائها لكي تجعلهم اقوى؟

كما يشعر بمتعة كبيرة من بعض الكليشيهات مثل «القوة هي سلاح الملاذ الاخير».

و«يجب مواجهة اسباب الارهاب كما نواجه تأثيره».

والسبب الثالث والمشكلة الاساسية هي ان فيلبان يتصور ان العالم الحديث يواجه اختيارا بين رؤيتين متعارضتين: الاولى تمثلها الولايات المتحدة والاخرى فرنسا.

وهو يطرح فرنسا والولايات المتحدة على اساس انهما الحضارتان المعاصرتان الوحيدتان ذات «تطلعات عالمية،» وهو ادعاء من المرجح ان تعارضه الجماعات المطالبة بهذا المقام. وبهذه الطريقة فإن فرنسا والولايات المتحدة تمثلان دور المتنافسين في «المجالين الثقافي والاخلاقي.» ويكتب فيلبان «رؤيتان للعالم تواجهان بعضهما البعض». كما يقول «لا تخطئ: ان الاختيار هو بين رؤيتين للعالم».

غير ان فيلبان لا يبذل أي جهد لكي يبلغنا ماهية الرؤيتين. والسبب انه لا يعرف شيئا. وهو يطبق الجدل الديني على السياسة. والاسوأ من ذلك انه لا يفهم الفرق بين السياسة الخارجية والشؤون الدولية. وبالرغم من كل ذلك فلنحاول ان نفهم تقسيم فيلبان للعالم الى معسكرين.

ومن بين الادعاءات هو ان المعسكر الفرنسي يفضل «الحوار والإقناع والمفاوضات، بدلا من استخدام القوة». ويعني ذلك ان المعسكر الاميركي يجهل كل ذلك مفضلا القوة الغاشمة. والانطباع بأن الولايات المتحدة تتحرك في جميع انحاء العالم تغزو كل دولة تختلف معها هو مبالغ فيه، على الاقل.

ان الولايات المتحدة تشارك كوسيط وصانع سلام في كل الأزمات تقريبا التي يعرفها العالم اليوم. وبالنسبة لاستخدام القوة، فإن فرنسا، وهي قوة متوسطة القدر، كانت ناشطة، اذا لم يكن اكثر من ذلك، في هذا المجال مثل الولايات المتحدة. فتوجد قوة عسكرية فرنسية في 22 دولة في 4 قارات. وفي الوقت الراهن فإن فرنسا تتدخل في حروب في ساحل العاج وفي الكونغو (زائير).

تحدث اولا حول «شاطئي الإنسانية»، وهي عبارة شعرية قصد منها ساحلي المتوسط. ولكن هل يرغب الفرنسيون في بناء «قطب» معاد للولايات المتحدة مع المغاربة والجزائريين والتونسيين؟ وهل ترغب المغرب والجزائر وتونس في الدخول في مثل هذه المغامرة، وهي دول لا تزال تشعر بالمرارة ازاء فرنسا بسبب التجربة الاستعمارية وقد اصبحوا لتوهم اعضاء مشاركين في حلف شمال الاطلسي بقيادة الولايات المتحدة؟

القطب الآخر الذي يأمل دوفيلبان في تكوينه سيضم دول منطقة الشرق الاوسط العربية بالاضافة الى جمهورية ايران الاسلامية، ولكن هل تقتضي مصلحة فرنسا الوطنية ان تنضم الى هذه الدول ضد الولايات المتحدة؟ وهل لدى الدول العربية وايران اي مصلحة في الدخول في مشروع خيالي اكثر منه مشروع جيوستراتيجي؟

من ضمن الحلفاء الآخرين الذين اشار اليهم دو فيلبان في مشروعه المتعدد الاقطاب روسيا والصين والهند والبرازيل. ترى هل من الممكن ان يتخيل احد ان ينضم أي من هذه الدول الى فرنسا في إطار معارضة منظمة للولايات المتحدة؟ ربما يشعر القراء بالدهشة ازاء قفز دو فيلبان متجاوزا الاتحاد الاوروبي في مساعيه لتكوين هذا القطب. ربما يكون السبب وراء ذلك ان الاتحاد الاوروبي لا يزال منقسما ازاء الحرب ضد العراق، اذ تؤيد غالبيته «القطب» الاميركي. كما ان هناك سببا آخر يتلخص في ان الاتحاد الاوروبي لم ينجح في الارتقاء بالجدل السياسي الى مستوى اعلى من «الحصص المقررة في صيد الاسماك» و«فرض ضرائب على الحيوانات الاليفة» و«تنظيم الاعلانات التجارية للتبغ». فعلى سبيل المثال، لم يعقد الاتحاد الاوروبي مطلقا جلسة على مستوى القيادة لمناقشة ما يجب فعله ازاء صدام حسين، كما انه لم يستطع تنظيم سياسته ازاء البوسنة، وهذه مأساة في قلب اوروبا. يعرض دو فيلبان نفسه كمعجب بنابليون بونابارت والجنرال شارل ديغول، رغم ان الفارق كبير بين الرجلين. مصدر اعجاب دو فيلبان الشديد بالرجلين لانهما يجسدان ما يطلق عليه «الاستثناء الفرنسي».

جولة دو فيلبان حول العالم بحثا عن اعضاء «لقطب» معارضة الولايات المتحدة تسببت في إضعاف حجته. فقد كتب: «اعضاء القطب (الذي تتصوره فرنسا) لا يعني التنافس وإحداث التوازن من خلال أشكال السباق المسلح كما كان عليه الحال في القرن العشرين.... الرؤية الفرنسية للتعددية القطبية لا تهدف بأية حال الى تنظيم التنافس وإنما تهدف في الاساس الى المسؤولية والاستقرار والمبادرة».

وجهة نظر دوفيلبان هذه تبدو اقرب الى وصفة لإقامة ناد للنساء المسنات منها الى تكوين احلاف لمنافسة «القوة الزائدة للولايات المتحدة» التي من المفترض ان تكون قد خرجت عن نطاق السيطرة. لم يتوصل دو فيلبان فيما يبدو الى ما اذا كان من المؤمنين بالاستقلال ام الاممية. ففي بعض الاحيان يضع دو فيلبان نفسه في النظام الاوروبي الخاص بالدول القومية التي ظهرت بعد معاهدة «ماستريخت» مع بداية القرن الثامن عشر ومؤتمر فيينا مع بداية القرن التاسع عشر لمعارضة التدخل في الشؤون الداخلية لاحدى الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي في هذا الشأن او ذاك. (السبب وراء كل ذلك بالطبع هو المرارة ازاء إطاحة نظام صدام حسين. فقد كان دو فيلبان وزير الخارجية الغربي الوحيد الذي لم يرحب بإنهاء الارهاب البعثي في بغداد). وفي احيان اخرى كان يحاول إبراز منظمة الامم المتحدة التي تعاني من الاحتضار كونها جهة إلهية تقرر مصير الإنسانية. يبدو ان دو فيلبان لا يرى مشكلة في ان غالبية الدول الاعضاء في منظمة الامم المتحدة تحكم بواسطة انظمة ذات شرعية مشكوك فيها. ثمة تفاصيل في بعض الاحيان تسلط الضوء على الكل. فقد كشف دو فيلبان انه قبل وقت قصير من بداية حرب تحرير العراق كان يعمل في حملة نشطة لإقناع الدول الاعضاء التي لا تملك حق الفيتو للتصويت ضد مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا. وقال دو فيلبان انه كان يهدف الى التأكد من عدم حصول مشروع القرار المقترح على الاغلبية اللازمة، مما يعني سعيه لتحاشي استخدام فرنسا لحق الفيتو. بمعنى آخر، حاول دو فيلبان الاختباء وراء الآخرين تجنبا للدخول في مواجهة مباشرة. ربما تكون هذه دبلوماسية ذكية، إلا انها لا تتماشى مع تظاهر دو فيلبان بالتفوق الاخلاقي. هذه القصة يمكن ان تساعدنا على فهم السيكولوجية التي تقف وراء سلوك دو فيلبان. فإما انه لم يكن يرغب في إطاحة نظام صدام حسين، أو انه لم يكن يريد ان يحدث ذلك بقيادة الولايات المتحدة. ولكن في كلا الحالتين لم يرغب دو فيلبان في اتخاذ موقف واضح، فهو لم يذكر كلمة «فيتو» واعتقد ان مشروع القرار الاميركي اذا حصل على اغلبية بسيطة، فإن فرنسا كانت ستمتنع عن التصويت. انقذ وزير الخارجية الاميركي نظيره الفرنسي دو فيلبان بموافقته على سحب نص القرار المقترح قبل التصويت عليه، ونتيجة لذلك لن نعرف مطلقا ما إذا كانت فرنسا ستقف الى جانب صدام حسين ضد الولايات المتحدة. وبصورة عامة، فإن كتاب دو فيلبان المكون من 668 صفحة يحتوي على الكثير من المتناقضات.

* عالم آخر

* المولف: دومينيك دوفيلبان الناشر: ليرنيه ـ2003