تحولات ما بعد الحرب الباردة

أميركا لا تتصرف كما تصرفت الإمبرياليات القديمة بل ترى العالم امتداداً للمجتمع الأميركي

TT

على الرغم من ان الغموض يلف مجيء الانسان، فإنه سيقدم الدليل على رغبته في التعرّف الى نفسه كجماعة متحدة (بوتقة قومية) تبين الحد الذي تقيمه لنفسها، وفي وجه الغير، متى راودت هذا الغير غريزة التعدي على سيادتها. ومن هذه المنطقة الغامضة والصامتة والاشكالية في التاريخ البشري، سوف تنشأ الحاجة الى الدولة، هكذا ومنذ البداية بحث الانسان عن عقل صارم ينضوي في ظله الآمن، فكانت له الدولة كطوطم سحري يأتي اليه باليقين. فالدولة كينونة كامنة في حياضها المستتر، والتاريخ وحده كان كفيلا باظهارها ونشوئها، انها تركيب شائك بين العنصر التجريدي والعنصر العيني، بين الخيالي والواقعي، بين الشبحي والجبروتي. ومنذ البداية كانت الدولة محل اغواء الفلاسفة من اليونان الى الاسلام الى غرب الحداثة وما بعدها، فالدولة بقدر ما هي قضية فلسفية، هي قضية سياسية، وبقدر ما هي منبسطة على فضاء التاريخ اللامتناهي، هي حاضرة في كل آن، فلئن حضر البشري حضرت الدولة، وقيامها وهبوطها امران متعلقان بجدل لا نهاية له بين الانسان والانسان، وبين الانسان والزمن.

يحكي هذا الكتاب قصة النهاية المنطوية على بداية ما، اساس الحكاية ان الدولة تقوم وتنتهي، ويظهر لنا ان الدولة السيدة التي عرفنا صورتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، سوف يلقى بها في جحيم التطور الهائل الذي بلغته البشرية. لقد ظهر بوضوح ان مقولة الدولة/الامة التي برزت بقوة بعد الحرب الثانية، تراجعت وضمرت مع صعود رأس المال اللامتناهي بعد نهاية الحرب الباردة ودفعت العالم الراهن الى وحدة اشكالية، تتصف بأنها وحدة اكراه واجبار، تخترق الجغرافيا وسيادات الدول وهويات الامم والطبقات والثقافات والبنى الايديولوجية والحضارية، انها وحدة لا عمل لها سوى ان تقذف بنا جميعا في دوامة التحلل والتجدد والصراع والتناقض والغموض والالم الشديد بصورة ابدية. تجعلنا تحت وطأة الهلع والخوف نواجه عالما يتبدد ويتحول الى اثير كل ما هو صلب فيه. سوف يبقى عصب الدولة/الامة يتحرك وينبض رغم كل شيء، وسوف يعود النقاش من جديد على السيادة انطلاقا من حياض الجغرافيا، ولن يذوي التاريخ ما دامت الجغرافيا حية في حقلها المفعم بالحراك، وسوف ينقسم المشهد الدولي عن حقيقة جيو ـ استراتيجية قوامها: ان الجغرافيا والتنازع فيها وعليها وحولها، هي الحقيقة المؤسسة للتاريخ الجديد. من ارض البلقان الى افغانستان فالعراق سينعطف العالم الى ما لا يمكن اعطاؤه وصفا عاديا، بدا كما لو ان الامبريالية القديمة تعود من طريق الغزو والاحتلال المباشر لتمسك بزمام عالم القرن الواحد والعشرين، فمن كان يظن ان الجغرافيا ستعود الى عرشها بعد الكلام على نهاية التاريخ؟ لقد بدا في السنوات القليلة الاخيرة ان العالم كله متجه الى احكام الجغرافيا السياسية او ما يسمى بـ «الجيوبوليتيك» او «سياسة المكان» حين يصبح هذا المكان مجالا لنزع السياسة او تثبيتها، او ما يجري من صراعات اليوم على الحدود والمياه والثروات الطبيعية، وكذلك على الهوية والاعتراف والسيادة والاستقلال، وان ما يجري من مجرى هذا المفهوم.

اذا كانت السيادة المستباحة هي المظهر الاكثر جلاء للدولة/الامة، فإن اميركا كدولة فاعلة في التحول العالمي، هي دولة (مستبيحة) بامتياز، من هنا ينشأ المعنى الاميركي للعالم، اذ حين يرى العالم بعين اميركية، لا تبدو سيادة الغير على نفسه الا خروجا على سيادة اميركا على نفسها.. ان هذا التأسيس الشمولي للدولة الاميركية لم يبتدئ بعد نهاية الحرب الباردة، ولا بعد زلزال الحادي عشر من ايلول 2001، وانما مع اول غيث من الشعور الاميركي بأن العالم آيل الى الانضواء تحت ظلال الدولة المخلصة العظمى.

صارت اميركا هي العالم والعالم هو اميركا، هذه هي القاعدة الميتاستراتيجية التي تقوم عليها الهندسة المعرفية لاميركا القرنين العشرين والواحد والعشرين، ولا يظهر في السلوك الاميركي الحالي انه يريد ان يتصرف على نحو ما تصرفت به الامبرياليات المعروفة، وانما تصرف على نحو لا يرى العالم الا بصفته امتدادا للمجتمع الاميركي وللامن القومي ببعده الجيو ـ استراتيجي.

اميركا اليوم تحكم العالم، حكما بالقوة او حكما بالفعل، وضمن هذه البرهة الانتقالية ستسعى اميركا الى تكييف العالم مع رحلتها المدوية، لأنها تملك (الخط التاريخي) ولو الى حين، فالولايات المتحدة قد تحرز نجاحا في عالم يشبه عصر الملكة اليزابيث الاولى بصورة جديدة، وفيه صراعات شبه دينية ودولة قبلية ومغامرون في التجارة واساطيل حربية وقتلة، وصحيح انها ستكون بفضل قوتها واقتدارها وعظمتها آمنة، لكنها ستفقد روحها، وسوف تصبح امة مرقعة، تقسمها الولاءات والاعراق، وسوف يسكنها شعب يفزعه السفر الى الخارج ومغادرة البيوت داخل الوطن.

قصد المؤلف من تأليف هذا الكتاب توصيف الدولة بما هو مفهوم، ثم بما هو حادث اخضع لتيار التحولات في الربع الاخير من القرن المنصرم، كان الحادث عاصفا وشديدا، فقد أذلت واستبيحت سيادة الدولة/الامة، وعلى هذا ستترتب مفهومات جديدة ومعايير، لم تكن ظاهرة ايام الحرب الباردة، وسوف ترخي بظلها على السيادات فتحشرها في قلاع محصنة او تتيه بها في فضاء التوازنات المحكومة بالخوف.

حاول المؤلف على امتداد احد عشر فصلا ان يمسك بالعناوين الكبرى لتحولات ما بعد الحرب الباردة، الى ان حل زلزال 11 سبتمبر، فبدأ العالم بدوله ومجتمعاته يظهر على نشأة اخرى.

قسم الكتاب الى خمسة اقسام مفصلة على احد عشر فصلا، فيها سعي الى بيان ان مفهوم الدولة المستباحة بعد سقوط نظام الحرب الباردة 1990، وبعد زلزال مانهاتن 2001، يجري على نسق واحدي الوجه، فالاستباحة باتت تمس (المستبيح) بسيادته بقدر ما مست المستباح بأرضه وسيادته وموارده، اراد ان يقول: ان الاستباحة التي بلغت حد الاحتلال المباشر لسيادة الدولة السيدة، باتت اطروحة تسم بدايات القرن الواحد والعشرين واراد ان يبين ان صفات الدولة المستباحة اجتازت الحد الذي عرفناه في بداية انطلاقة الجنون العارم للعولمة من ان افضل انواع الهيمنة هو ذاك الذي يبقى فيه الخاضع للهيمنة غافلا عما هو فيه.

وقد ظهر في السنوات الاولى من القرن ان استراتيجيات الاستباحة هي استراتيجيات مركبة، تستخدم تقنيات الامبريالية المنقرضة جنبا الى جنب مع تكنولوجيا العوالم التكنو ـ الكترونية العالية الذكاء والدقة، انها انماط من السيطرة يتوازى فيها المباشر وغير المباشر، المكشوف والمستتر، احتلال السياسة والاقتصاد مع احتلال الارض، انها انماط من السيطرة توصل المسيطر عليه الى اليأس ليعرض عن المقاومة، يسعى واضعوها الى تحويل المهيمن عليه الى فاعل يضاف الى افاعيل الهيمنة.

ولكن هل الاستباحة قدر لا راد له؟

ان الامر يبتعد عما يظن انه استغراق للعالم في ما يشبه الابدية السياسية، فمثلما هبطت الدولة السيدة بعد صعود، ستنهض الدولة المستباحة اثر هبوط، وقد يأتي وقت قريب يتحدث فيه الناس عن ان قيامة الدولة، ستطلع من الارض المستباحة، حيث المعادلة الكبرى تمكث في تلك المسافة الفاصلة بين نهاية التاريخ وبداية الجغرافيا.