زواج قطر الندى الأسطوري زرع بذور السلام بين القاهرة وحاضرة الخلافة بغداد

د. نجم عبد الكريم

TT

هناك اعراس وزفافات كثيرة دخلت التاريخ لأسباب تتوقف عليها علاقات بين الدول، او انقاذ لهزائم، او سداد لديون، او ديات لارواح ازهقت، او لحقن دماء.. لكن الزفاف الاسطوري الذي يكاد الحديث عنه يصل الى حد الخرافة، لم يفعل شيئا من ذلك، الا انه دخل التاريخ كواحد من اهم الاعراس التي تدل على سفه المترفين في فترة من فترات التاريخ الاسلامي.

* زواج قطر الندى

* الذي ذكره المؤرخون عندما وصفوا قافلة العروس ـ قطر الندى ـ وكيف حمّلت هذه القافلة ما لم تره عين او تسمع به اذن، اربع قطع من الذهب عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من الجواهر لا تعرف لها قيمة.. دكة من الذهب، تضع عليها قدمها، كلما دخلت الى حجرتها. مائة هاون من الذهب يدق فيها العود والطيب. ألف مبخرة من الذهب. ناهيك عن مئات الصناديق المحتوية على الملابس، والاقراط، والسلاسل الذهبية، وفصوص من الاحجار الكريمة. وفوق هذا وذاك امر خمارويه والي مصر أن يبني لابنته قطر الندى على رأس كل مرحلة من مراحل الطريق الطويل، فيما بين القاهرة وبغداد، قصرا تنزل فيه، معدا بكل ما تحتاجه العروس في سفرها من الراحة واسباب الرفاهية، فتشعر وكأنها في كل قصر تنزل فيه بأنها لم تفارق قصرها في القاهرة. وحين وصل موكب العروس الى بغداد ليلا بين آلاف الشموع والمشاعل، دخل موكب قطر الندى قصر الخليفة المعتضد زوجها فكانت هناك احتفالات اخرى لم تر بغداد مثلها، على امتداد تاريخها!

* بداية الحكاية

* كان خليفة بغداد ـ الموفق ـ قد بعث بعيونه الى القاهرة ليستطلع اخبارها، فعادوا اليه بما أثار في نفسه البغضاء والحسد على حاكمها، فلما سمع من عيونه ما سمع، قال: «ظننا اننا قد انتهينا من الدولة الطولونية ووقاحتها، بموت احمد بن طولون، فإذا بولده خمارويه يبالغ في العصيان، ولا يرسل الينا من خراج مصر الا ثلث ما كان يرسله الينا ابوه، وما احسب ان موارد مصر قد نضبت! بل وافت، وزادت، وان ما تركه ابن طولون لولده لا يقل عن مائة الف دينار، فوق الجواهر الثمينة والخيل والابل والبغال التي يكاد ثمنها يربو على ثمن الذهب النضار في خزائنه، هذا قليل من كثير، وهو ما جاءت به عيوننا التي اوفدناها الى القاهرة!» فيحرضه ابنه المعتضد بالقول: «ما يجدر بك ان تسكت على خمارويه. يجب ان تبعث له جيشا يدخل مصر، ليضم بالقوة ملكها الى ملكك!» «فيجيبه ابوه»: «لم تعد يا ولدي الخلافة العباسية غير رداء خلق، ملأه الفقر بالرقع، وما احسب جيوشنا تثبت ساعة امام جيش خمارويه»، لكن المعتضد يرد بحماس: «ابعثني يا ابي على رأس جيشك، وسترى ما افعل»، فيهدئ الخليفة من روع ابنه بالقول: «خزينة خمارويه حافلة بالمال وقدرته بالانفاق على الحرب لا تدانيها قدرة، بينما نحن نستجدي اقوات الجند»، فيقاطعه ابنه المعتضد: «والله يا ابي ان لم تبعث بي في جيش الى هذا الرجل، لخرجت اليه وحدي، فما كنت سليل البيت العباسي وحفيد الرشيد ان لم اجرد خمارويه من مصر والشام، واضم كل ذلك الى ملكي!».

* من القاهرة.. إلى بغداد

* ولما بلغ خمارويه ما يعتزمه المعتضد، وما ينوي ان يفعله بعد ان مات ابوه الموفق، قرر ان يجيش الجيوش ليزحف بها الى مصر، قال: «رحم الله اباه الموفق، كان اذكى، واوفر حكمة من ابنه المعتضد، فلو طلب منا ان نزيد في خراجه لفعلنا، فما نحن الا ولاته على الاقاليم، ولكن بما انه عزم على حربنا، فلا خيار لنا سوى ملاقاته»، ثم جمع قادة جيشه وامر ابا عبد الله بن سعد ـ قائد جنده ـ ان يخرج الى مشارف العراق، وان يعرض على المعتضد، ان يضاعف له الخراج، فإن ابى الا الحرب، فلا بد من تبديد شمل جيشه، على الا يدخل القتال مقر الخلافة العباسية، إلا بأوامر من خمارويه نفسه! لكن ابن سعد انفرد بخمارويه محدثا إياه بشأن ابنته قطر الندى التي كان قد خطبها منه، فوعده خيرا، وقال له: «دعني اكلم قطر الندى في ذلك، وكذلك استشير اخاها ابا عساكر، وعندما تعد الينا منصورا، سننظر في طلبك ان شاء الله». ولكن خمارويه لم يكن صادقا في وعده! تحالف جديد ويخرج ابو عبد الله وهو حزين، بعدم البت في امر خطوبته من قطر الندى، حتى اذا اقترب من العراق، ينجح الخليفة المعتضد في استمالته اليه، بعد ان اقنعه بأن خمارويه يبخل عليه بالزواج من ابنته! فينضم بجيشه الى جيش المعتضد، ويجتمع حقد العاشق الخائب مع غل الخليفة الحاسد وينحدران الى فلسطين.

* خمارويه

* وتثور ثائرة والي مصر، بعد ان بلغته اخبار التحالف الزاحف لمواجهته في القاهرة! فيقرر الخروج اليهم بنفسه على رأس الجيش ليدرأ الخطر القادم، فيوصي ابنه: «انت مكاني على الناس هنا، فاذا فتح الله علينا عدنا غانمين، سالمين، واذا شاءت ارادة الله الا ننتصر، فانشدك الخير في اهل البلاد يا ولدي، فأهل مصر عون لك في الشدة.. واوصيك باختك قطر الندى، فهي وردة يانعة، ليس لها من يحميها من الايدي الطامعة سواك، فلا تسلمها إلا الى خير الناس، ممن ترضى عنه ولا تزفها الا لكفء كريم..» ثم يسأل ولده «ألديك ما تريد قوله لي قبل ان ارحل؟»، فيسأله ابنه أبو العساكر: «ان اظفرك الله بالمعتضد، اتمنى الا يدخلن القاهرة الا وهو مقيد بالحديد!»، لكن خمارويه يجيبه بالقول: «كلا يا ولدي.. بل اذا ظفرت بالمعتضد خليفة المسلمين، وامير المؤمنين، فسأعيده الى بغداد معززا مكرما، فما يزيل الاحقاد يا ولدي الا الصفح الجميل، ولا تنس، لولا انه رفع السلاح علينا، لما بادرنا بحربه، انه الخليفة!».

وكانت هزيمة المعتضد ساحقة في المعركة، بعد ان وقعت جيوشه كلها في الاسر، لكن خمارويه يأمر بأن يتم التعامل مع الخليفة بما يليق ومكانته كأمير المؤمنين، ثم وعده بمضاعفة خراج مصر، بل وعده بما هو اكثر من ذلك عندما عقد العزم على مصاهرته بزواجه من وحيدته قطر الندى، فكان ذلك العرس الاسطوري الذي ذكرته كتب التاريخ!