العودة إلى كتب الماضي

TT

إنني افضل العودة الى ما كتبه توفيق الحكيم وجبران خليل جبران، فهذان الكاتبان هما من افضل ما اخرجه العصر الحديث في الشرق. وآخر ما قرأت في العام 2003 كتاب فرنسي عنوانه «أدب العصر» وفيه يعرض الكاتب سير عدد من عمالقة الأدب في العالم. وابرز ما يترك اثراً لدى قارئ هذا الكتاب، التفاصيل الدقيقة والخفية في حياة ليو تولستوي، وما تنطوي عليه هذه التفاصيل من دلائل على الجذور الانسانية العميقة التي نما عليها هذا الأديب العظيم الذي شاءت الظروف والتقارير ان يولد وينشأ في بيئة اجتماعية تناقض كل ما في اعماله من مشاعر وخواطر.

يكشف هذا الكتاب عن الوسط الاجتماعي الذي امضى فيه تولستوي المرحلة الأولى من حياته، وهو وسط ارستقراطي يسوده حب الترف، والشغف بالمظهر، وعبادة المال، وتقديس العرف الرجعي، والتعلّق بالنظام السائد وهو نظام اوتوقراطي استبدادي.

ولكن نشأته في هذا الوسط لم تحُل دون التفاته الى ما يحدث في الاوساط الشعبية البائسة، حيث أبصر مواطنيه عراة الاجسام، حفاة الاقدام، اذلاء النفوس، مطأطئي الرؤوس، فرائس المرض، تعساء يخشون سطوة المال، يلوذون بكبار الملاكين ويتملقونهم اضطراراً لكي يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة ولو بقاء مراً.

كما ابصر ابناء وسطه الارستقراطي الذين قدّت قلوبهم من الصخر، كيف يستبدون بالفلاح ويسومونه العذاب ويملكونه مقهوراً.

ونظر الى السجون وما يرتكب فيها من فظائع يجريها توحش الطبقة الارستقراطية المستبدّة على الارقاء من تعساء الخلق.

ونظر الى سيبيريا ومن يرسل اليها من رجال الفكر وابطال الحرية. واحس انه ليس غريباً عن هؤلاء التعساء، وانه أخ لهم، وان من العار عليه ان يغضّ الطرف عما يحصل ويتغافل على جرائم الوسط الارستقراطي الذي ينتمي هو اليه بحكم الوراثة والتقليد، مكتفياً بأن ينعم في قصره المنيف بمباهج الدنيا ويشقى اخوانه في الانسانية بكل هذا العذاب.

وبدأ مسيرته الانسانية الرائعة بإعلان ثورته على المجتمع الارستقراطي الاستبدادي بكل من فيه وما فيه، واندمج في اوساط الفلاحين والعمال الفقراء، وأخذ يدافع عنهم في صدق واخلاص وحرارة وجرأة. وجرّد نفسه من امواله تجريداً تاماً، ووزّع املاكه الواسعة على الفلاحين ليتسنى له ان يشعر بأنه فقير كهؤلاء الاخوان، وانه يقول ما يفعل، الامر الذي اغضب الطبقة المسيطرة التي درج أبناؤها على استعباد الملايين من مئات السنين، كما اغضب أسرته وزوجته، فتركهما وترك هذا الوسط كله واندمج في صفوف الفلاحين وعاش معهم يحثّهم على التمرد والعصيان، واسعده ان يغضب عليه الطغاة ويواليه من قسا عليهم الزمان واذلّهم الطغيان.

وفي هذه المرحلة وضع تولستوي رواياته وقصصه الشهيرة. وصفوة ما ورد في هذه القصص والروايات من مواقف وتعاليم، ما قوله في احداها على لسان بطل من ابطالها يخاطب شاباً يبحث عن قاعدة للحياة:

«لا تخضع لأي قانون لا يطمئن اليه ضميرك المشبع بفكرة الاخاء الانساني النابعة من اعماق ذاتك ومن روح الله! لا تخضع ولو ادى بك الامر الى التضحية بحياتك!». ذلك هو الأديب الحق، وتلك هي رسالة الأدب في المجتمعات التي يسودها الظلم والاستبداد وتهدر فيها حقوق الانسان برعاية وحش المال!

* شاعر لبناني