إنهم ينقذوننا بالشعر

فاضل السلطاني

TT

هل ستتحقق اخيرا نبوءة هيغل بموت الشعر؟ لقد اطلق صاحب «فينومونولوجيا الروح» هذه النبوءة الرهيبة في القرن التاسع عشر، قرن الفلسفات الكبرى التي بدأت تمنطق «العالم»، وتحاول ان تهبط به من الأرض الى السماء، وتوقف الظواهر على قدميها بدل رأسها. وبدأ العصر وكأنه يدير ظهره لملاك او شيطان الشعر الهائم ابدا في الاثير او وديان عبقر، هربا من العصر الذي بدأ فيه دخان المصانع، وغبار المكائن يملآن السماء، ويحجبان الجمال عن العيون. وكان قدر الشاعر، كما في كل زمان، ان يصون هذا الجمال، فهذه هي مهمة الشعر الاولى والاخيرة، حتى لو قضى عمره هائما في الفضاء، او قابعا مثل كائن متوحش في الوديان المهجورة.

انه من هناك، من عزلته الموحشة، سيكون اكثر منا قدرة على رؤيتنا عارين مثل الاطفال، والنفاذ الى جوهرنا، وتبصيرنا بما نحن فاعلون، وبما نفعله بانفسنا وعصرنا. انه من هناك سيكون قادرا على الامتلاء بالجمال الذي سيرشه علينا كالمطر.

سيقتل هذا الجمال كييتس وهو في الرابعة والعشرين، وسيجنّن هولدرين لأكثر من ثلاثين عاما، وسيقود رامبو الى ان يهرب من لعنته الى براري اليمن، وحيدا مريضا، وسيجعل بودلير ملعونا، ومقاتلا اعزل امام جحافل الجميع.

كان عصرا لا يحب الشعر كثيرا، لكن قدر الشعراء ان يقلبوا العالم رأسا على عقب.

وهذا ما فعلوه حين اغلق هذا العصر منافذه على نفسه، وكادت ان تتعفن رئتاه من الهواء الفاسد، وتترمد عيناه من مشاهد القبح التي غطت مساحة الروح وبلغت اشدها في نهايته، واستمرت حتى بداية القرن العشرين. لقد تمرد السورياليون، كما يشير الطاهر بنجلون بحق، على عصر صار خلوا من الدهشة والمفاجآت والخلق، فحرروه وانقذوه بشعر صاعق غير منتظر.

لقد ابتدأت الثورة الشعرية الكبرى التي ستغير العالم، كما غيرته الفلسفة في القرن التاسع عشر. وكان النصف الاول من القرن العشرين عصر التغيرات الجمالية الهائلة التي عبرت عن نفسها باشكال مختلفة، وبعضها مشوه، لكنها مست الروح الانساني في شموليته، فلم يعد كما كان.

لم يعد احد يتحدث عن نبوءة هيغل بموت الشعر. اصبحت مثل نكتة سمجة. لكنها، كما يبدو، تطل برأسها المعاند من جديد بعد هذه الدورة البشرية الممتدة من نهايات القرن الماضي الى الآن، التي يبدو ان بوصلتها لا تشير سوى الى اتجاه واحد: اللااتجاه.

كانت الراحلة كاثلين رين، شيخة الشعر الانجليزي، تتوجع دائما من غياب الشعر والشعراء: «قل لي» كانت تصرخ بي: «اين الشعر الآن في العالم؟ اذكر لي شاعرا بقامة وليم بليك او ييتس او اليوت؟».

ويصرخ ايضا العربي الطاهر بن بنجلون في جريدة «النهار»: «ان العصر الذي نعيش فيه لا يحب الشعر، بل يؤله البضاعة، المنتج التجاري، سواء أكان هذا المنتج شيئا او انسانا او جسد امرأة او نجومية ما. الشعر هو المفهوم المضاد للسلعة بامتياز. وأسفنا الكبير ان كبار الشعراء المعاصرين امثال ايمي سيزير، ومحمود درويش، وايفي بونفوا وسواهم ليسوا على تناغم مع زمنهم».

والشعراء الذين تعنيهم رين، ويشير اليهم بنجلون، هم القابضون على الجمر، المشبوهون لأنهم منفردون، الهامشيون لأنهم في قلب العالم وليس على ضفافه، الكئيبون من اجل الجميع، القلقون الذين تحتهم الريح تحركهم يمينا او شمالا. وبهذا المعنى الشعراء الكبار قليلون، انك لا تعثر عليهم في المهرجانات وانما هناك في غرفهم.. النقطة الوسطى من العالم. وقد يغيبون طويلا، ولكنهم يحضرون دائما ليقلبوا حياتنا رأسا على عقب كما فعلوا في كل العصور التي تبدو انها لا تحب الشعر كثيرا.

انهم يأتون دائما لينقذوننا بشعر صاعق غير منتظر، حسب تعبير بنجلون، بالرغم من نبوءة هيغل.

[email protected]