علاقات نسائية اقتلعت امبراطوريات

د. نجم عبد الكريم

TT

منذ ان بدأت تتشكل مؤسسة السلطة فوق هذا الكوكب، كانت الحاشية التي تحيط بالحاكم تلعب دورا كبيرا بالتأثير على قرارات ذلك الحاكم، فهي تدفع به احيانا في اتجاه الاصلاح والتطور!! واحيانا اخرى تدفع به الى طرق لا تخلو من منزلقات مليئة بالكوارث! وقد تكون عناصر هذه الحاشية من الرجال أو من النساء أو الاقارب!! لنلق نظرة سريعة على الأدوار التي لعبتها حاشية النساء مع الحكام، وكيف غيّرت في مسارات تاريخهم.. فعلى سبيل المثال:

* مدام مانتونون.. ومدام دي باري.. ومدام دي بامبادور.. فعلن في أسرة كابيه الفرنسية الافاعيل التي أدت الى الكوارث والدمار، فسقط على ايديهن لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، عندما قامت الثورة التي اطاحت بعرش اسرة كابيه.

* هنريت الفرنسية فعلت بشارل الاول ـ الانجليزي ـ ما قاده الى السيف والنطع في أول وآخر ثورة شعبية في تاريخ بريطانيا!!

* نيل جيوين قد سقت الملك شارل الثاني من نهر الجنون!!

* فانوزا.. فاتنة جعلت من البابا الكسندر السادس اضحوكة العالم ومحط لعنات الكاثوليك، بدلا من ان يكون محل احترامهم وتبجيلهم!!

* ماريا مونتيز ألجأت الملك لويس الثاني ملك بافاريا الى الانتحار!!

* الفنانة بيلا نجيه قوضت عرش نابليون الثالث وكانت وراء احتلال الالمان لفرنسا.

* اعتماد الرمكية أعمى دلالها وحبها أمير الاندلس المعتمد بن عباد، فأضاع تراث الاجداد.

* كارولين ستوكمار عبثت بشيخوخة ليوبولد الثاني ملك بلجيكا وجعلته سخرية لملوك اوروبا!

* كاترين دولجوروكي اسلمت اسكندر الثالث قيصر روسيا لخناجر الثوار.

والقائمة طويلة في هذا المجال.

لكن هناك حاشية، قد يصل حجم العلاقة بينها وبين الحاكم الى درجة من الود والاحترام، لتتخذ شكل الصداقة الحقيقية، وعلى سبيل المثال: فإن جورج فيلييه ـ لورد باكينجهام ـ يمثل نموذجا خاصا وصادقا لشكل العلاقة بين الحاكم وحاشيته.. ولذا فقد صعد جورج الى تسنم عدة مناصب، حيث صار: فارس الدولة، وزير المالية، حارس الابواب الخمسة، رئيس مركز الاشراف، الرئيس الاعلى لمجمع ويستمنستر، المشرف العام على القصور الملكية، عميد شرف جامعة كمبريدج، ادميرال البحرية البريطانية والأهم من كل هذا وذاك انه صديق العاهل البريطاني جاك الاول ومن بعده شارل الثاني.

اما كيف تبوأ جورج فيلييه كل هذه المناصب، فإن لهذا الامر قصة ذات علاقة مباشرة بحاشية الملك:

يقول المؤرخ سير جون أوجلاند، وهو يكتب عن الملك البريطاني جاك الأول: «لا يكاد التاريخ يعرف ملكا اوروبيا في طهارة جاك الأول، وانجذابه نحو الافكار النبيلة، وتقديسه للصداقة».

لكن نبلاء انجلترا وساساتها لم يأخذوا بما كتبه المؤرخ على محمل التصديق، فصداقة مليكهم لـ «روبرت كار» قد كلفت ميزانية الدولة الكثير، وهو ما فتئ يحرض الملك على ما يعرض البلاد للخطر. وبما ان كار هذا من اقرب المقربين الى حاشيته، فهو لا يكف عن اقتراحاته التي كثيرا ما يهمس بها في اذن الملك بالشكل التالي: ـ يا مولاي.. ما معنى سكوتك عن استبداد الوزير الفرنسي ريشيليو بالجالية البروتستانتية في مقاطعة بريتاني؟! فلم لا تعلن الحرب على فرنسا؟! ـ يا صاحب الجلالة، اذا اصر اعضاء مجلس العموم على رفض اقرار الضرائب التي فرضتها، فلا مفر من حل البرلمان.

ـ يا صاحب الجلالة، كثرت الشائعات حول سلوك كريمتكم الاميرة ماري، ولا شيء يسكت الألسنة، سوى دخولها الدير!! وهكذا فقد صدرت عشرات المراسيم الملكية، وعليها طابع روبرت كار واسلوبه في الانتقام من اشراف انجلترا ونبلائها، لأنه من منبت وضيع! ولذا فقد كان موضع ازدراء من جميع كبار الساسة والنبلاء في لندن، فخططوا لابعاده عن الملك، بعد ان جاءتهم الفرصة حينما وضع روبرت كار نفسه المشنقة حول رقبته، من حيث لا يشعر.. عندما تجاسر وطلب يد الليدي فرانسيس ارملة اللورد فرانسيس اسيكس، فرفضته، بل واحتقرته، لكنه لجأ الى صديقه الملك العجوز، فاستصدر منه مرسوما ملكيا يرغمها على الزواج منه، لكن الليدي فرانسيس فرت الى جلاسجو، وارسلت الى بابا روما تعلن اعتناقها الكاثوليكية، فأصبح محرما عقد زواجها من روبرت كار البروتستانتي!..

وبعث البابا بخطاب شديد اللهجة الى الملك يحذره فيه من استصدار مراسيم ملكية تفرض زواج البروتستانتي من الكاثوليكية، فتم استغلال ذلك الموقف من قبل الساسة والنبلاء للخلاص من هيمنة روبرت كار على الملك.. فقدم اللورد كريدون في لباقة وذكاء، وصيفا جديدا لمليكه، ليصحبه في رحلة صيد، وقد حاز هذا الوصيف الجديد اعجاب الملك.. وفي اثناء طريق العودة الى لندن طلب من كريدون ان يزوده بمعلومات عن ذلك الشاب الجديد:

«انه يا صاحب الجلالة ابن السير فيلييه من الليدي بومونت، التي انشأته خير نشأة، فدرس في اكسفورد، ويجيد اربع لغات ويتقن الرقصات القديمة والحديثة، وهو خبير في الازياء وذواقة لألوان الطعام والشراب، ممتع الحديث، يجيد القاء الشعر وهو عازف رائع على البيانو.. فإذا ما اعجبتك صفاته، سيكون من الغد في خدمة جلالتك».

وارتعد روبرت كار فور علمه بالتحاق جورج فيلييه بخدمة الملك، وكان قد اعتزل البلاط الملكي لعدة ايام، ليثير تساؤل الملك عنه.. ولما لم يعبأ به أو يسأل عنه، أخذ يعمل على تغيير اللعبة، فالغريم الجديد الذي انضم الى حاشية الملك، بالغ الخطر، كما علم روكار من عيونه بالقصر!! فدبر مكيدة بهدف الاطاحة بالضيف الجديد على حاشية الملك.. ففي ذات مساء، وبينما كان الملك يتناول عشاءه مع جمع من السفراء وجورج فيلييه يقف خلفه قائما على خدمته.. واذا بأحد الخدم يتعثر، فيدفع بجورج الى ظهر سيده، فتنسكب الزجاجة التي بيده على رأس الملك العجوز، فدبت الفوضى في ذلك الحفل المهيب، خاصة عندما امسك جورج بتلابيب ذلك الخادم ولم يتركه إلا ميتا..!! وبدأت الصرخات تصدر من السيدات وبعض الحضور.. يا إلهي، لقد قتل الخادم؟!!.. جريمة قتل في حضرة الملك؟!!.. لا بد من عقوبة القاتل..؟!! ان القاتل جديد على الحاشية، فمن سيقتل لو استمر مدة اطول؟

وفي صباح اليوم التالي لهذه الحادثة.. حضر روبرت كار الى القصر الملكي، وتوسل الى الملك باسم عدد من الامراء والساسة والوزراء، ان يتم القاء القبض على جورج فيلييه، الذي امضى ليلته في القصر، دون ان يعاقب على جريمته..!! لكن الملك يفاجئه بالقول:

«لا ارى فيما فعل جورج جريمة تستوجب العقاب، لقد ثبت لي ان الخادم القى بنفسه عامدا على ظهر جورج، ونال عقابه ولا اريد احدا ان يكلمني في هذا الامر بعد اليوم».

فحاول روبرت كار حث حاشية الملك على ان يذهبوا اليه متجمعين ويطالبوه بتقديم جورج فيلييه الى السجن، فتجمع عدد منهم، ووضعوا خطة بالتأثير على الملك حتى يقصى جورج فيلييه من خدمته.. وبعد ان افرغ كل واحد منهم ما في جعبته، وقف الملك موجها حديثه اليهم حيث قال:

«أيها السادة من حقي ان اسبغ عطفي على من اريد من خدمي الذين يتفانون في سبيل مرضاتي، وكونوا على ثقة انني اقدر كل التقدير صديقي لورد باكينجهام جورج فيلييه» وهنا تساءل كار: «هل انعمت عليه ايضا بلقب لورد باكينجهام يا صاحب الجلالة..؟» قال الملك: «وسأنظر اليوم في امر تعيينه وزيرا..» وغربت شمس روبرت كار، التي كانت تضفي بظلالها على حاشية الملك، وبزغت شمس جورج فيلييه ـ لورد باكينجهام ـ وصاحب المناصب العشرة، الذي كانت نصائحه معززة لمكانة بريطانيا ولخير شعبها.