الصور حين تفعل فعلها في الحرب والسلم.. وفي السياسة

كتاب فرنسي عن الحق في الحياة الخاصة والحق في الصورة بإضافات عربية عن النصوص الدستورية والقانونية العربية ذات العلاقة

TT

الموضوع مطروح اليوم في صلب المناقشات المعاصرة. لكنه جديد على المكتبة العربية، يضع بين ايدي القرّاء خلاصة عن القوانين الوضعية واجتهادات المحاكم في هذا المجال. كما يجمع النصوص الدستورية والقانونية من مختلف الدول العربية، المتعلقة بالحق في الحياة الخاصة، والحق في الصورة، في اطار مقاربة مرتكزة على المبادىء القانونية وطرائق ومناهج علم الاجتماع.

الموضوع لم يعد من الممكن التغاضي عنه، في زمن خلقت فيه وسائل الاعلام نوعاً فريداً من التواصل الانساني، بحيث افضت صيرورة العولمة التكنولوجية الى مجتمع «القرية الكونية»، وصارت الصورة تعيد تركيب عقل المشاهد، وتضع كل الحواس في خدمة العين. العالم يعيش ثقافتها التي تنافس كل الثقافات الاخرى، بعد ان نفذ الاعلام المرئي الى ذات المشاهد، وعمّم خصوصيته وقيمه ونظامه، فبات المشاهد اسير الصورة يقرأ بعيونه ما يكتب بالعدسات. ورهين الشاشة لا يستطيع مغادرتها، اذ كيف يغادر المرء تاريخاً يصنع تواً؟ واستطاع الاعلام الاقوى بواسطتها من تسخير القلق المعرفي عند الانسان لخدمة مصالحه، وتأكيد قدرته على فرض رؤيته على العالم.

يتطرق الكتاب الى تقنيات الصورة وتطورها عبر التاريخ فيعرض تاريخ التصوير الفوتوغرافي، ويفند اولاً الاسباب التي تقول إن الانسان ابتكر التصوير، كتخليد صورته والمشاهد الزائلة، ونسخ الطبيعة ومحاكاتها، غافلة عن الدوافع الانسانية في التعبير عن الذات، والتواصل مع الآخرين، والرغبة في الابداع والخلق الكامنة في تكويناته المميزة عن سائر الخلق، والتي ظهرت كرسومات على جدران الكهوف قبل ان يتمكن الانسان من التعبير والتواصل بإصلاح التصويتات لغة.

ينتقل الكتاب الى البحث في كيفية توجيه الرأي العام بالصورة الموضبة والمنتقاة. فيقول ان الصورة الفوتوغرافية تشكل عنصراً مؤثراً وفاعلاً في الصحافة المكتوبة ايضاً. فالصورة تبقى لولب الخبر يتمعن بها المتلقي ليخرج بانطباعات تجاري الحدث الموصوف في سياق الخبر. وكما تفعل الصور فعلها في الحرب والسلام، كذلك هي مؤثرة وفاعلة في العمل السياسي الهادف الى تداول السلطة من خلال الانتخابات، او من خلال مطالبة الشعوب بحقوقها. ويعطي المؤلف امثلة عن هذا الاثر بعرض نماذج مثل المؤتمرات الصحافية التي يعقدها ياسر عرفات على خلفية المسجد الاقصى التي تفصح عن رسالة سياسية بامتياز على احدى الثوابت الاساسية في السياسة الفلسطينية باعتبار القدس عاصمة لفلسطين. ويمر على صورة الفتاة الافغانية التي اصبح وجهها من اشهر الوجوه المعروفة حتى الآن. مروراً بالصور الفضائحية، وصولاً الى محمد درة، وصور الحرب في الغزو الاميركي للعراق 2003.

يقول المؤلف انه في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الصور الخاصة بالصور العامة، بتنا نشعر بأن صناعة الصورة لم تعد تلك التي تجمّد اللحظة الزمنية فحسب، بل اضحت آلة سحرية تحرك الزمن وتنقذه من لحظويته.

غير ان هذا الاختلاط المتوتر بين الحياتين الخاصة والعامة وصورتهما، يوجب على القانون ان يتدخل لمراعاة حق كل من الطرفين. الطرف الاول: حق الانسان في صون حياته الخاصة. والطرف الثاني: حق الآخرين بالاعلام. وبين الحقين المتشابكين خلص المؤلف الى رسم خط تصاعدي، يبدأ من صون الحياة الخاصة، عبر قراءات دقيقة للاحكام الصادرة بضرورتها، وقد واجه هذا الخط بقيمية تصاعدية، كأنما هو واصل الى مستقطبين: الحق الذي يجب ان يكون جوهرة في الكيان لا عبئاً عليه. والحق في الدفاع عن الحياة الحميمية، وهو مطلب ملقى على احكام الآخرين، حيث لفرضية النبل ان تحل الاشكال. الترسيم الذي يراه المؤلف كحل ينطلق ويصب في علم الاخلاق.

يعقد المؤلف الفصل الخامس للمعلوماتية واثرها على الحياة الخاصة. فيرى ان من الصعوبة بمكان رسم الحدود بين فاعلية الخانات المجمعة للمعلومات «الفيش»، وبين المس بالحريات العامة. فقد اصبحت حياة الافراد الخاصة في خطر. فالكومبيوتر سهّل عمليات جمع المعلومات، وتخزينها، وفرزها عند الطلب. قد تتناول هذه المعلومات مئات الاصناف من الخانات في مجال الصحة والمال والتأمين والجرائم، والبصمات، بحيث اخذ يظهر كل فرد في المجتمع في عشرات الخانات، كل منها تحتوي على معلومات تخصّه، فكيف العمل لمنع التعامل او تبادل هذه المعلومات فيما بين المؤسسات، والخطورة الكبرى تبدو في امكانية ان تصل هذه المعلومات لأي شخص او لأي مؤسسة، لان التقنية اسرع من اولويات ضبطها؟

يحدّد المؤلف مخاطر استخدام المعلوماتية، كاستخدام الكومبيوتر لتنفيذ الجرائم، واطلاق الصواريخ العابرة للقارات، وثبات المعلومة في الكومبيوتر مما يجعل من ماضي الفرد عنصراً ثابتاً يلاحقه فيما هو يتغيّر، وما يتيحه من مراقبة من رب العمل على العمال، والمخاطر على قدرات الانسان بتبليدها، والمخاطر الناتجة عن الخطأ في المعلومات والتعامل معها، ومخاطر سرقة المعلومات من قبل الموظفين، ومشاكل اطلاق الفيروسات على الكومبيوتر، الى القرصنة وصعوبة الحد منها. كما ان من الصعوبة بمكان التحري عن جرائم الانترنت، الى غيرها من المخاطر التي يجد المؤلف الحل القانوني لها لحماية الخصوصية في الكومبيوتر بالاعتماد على مبدأين يمكن ادراجهما في قسمين:

القسم الاول، يعود الى الحقوق المرتكزة على الطبيعة الجوهرية للحق بالخصوصية. والهدف منها هو حماية حياة الانسان الخاصة وحقوقه الشخصية بالاضافة الى اعادة التوازن بين السلطات. بعد ان اظهرت التقنيات الجديدة التي تمتلكها السلطات قدرتها على زعزعة قدرة الانسان الفردية.

القسم الثاني، يتعلق بالأنماط الواجب اتباعها لضمان هذه الحماية. وذلك باعتماد التشريعات التي تنظم مختلف مراحل استعمال المعلومات الشخصية في المعلوماتية. وذلك بتحديد الوسيلة التي تجمع فيها المعلومات، وممن، وكيف تراقب صحتها؟ وما هي المعلومات التي يجب ادخالها في الذاكرة الآلية؟ ولأي مدّة؟ وما هو الهدف المتبع في بنك المعلومات؟ وهل هي متلائمة مع الضرورة التي وجدت لأجلها؟ ولمن تعطى المعلومات ووفقاً لاي معايير؟ وكيف تضمن السرية المهنية؟ وما هي الضمانة لعدم تجاوز المعلومات المخزونة للغرض الذي وضعت من اجله؟

يرى المؤلف ان الشفافية تقتضي في هذا المضمار شروطاً منها:

وجوب الاعلان عن انشاء مركز لجمع المعلومات والغاية منها. واخضاع الاشخاص المولجين بجمعها لموجب التكتم. وصلاحية محو الاخطاء. ومنع ادخال المعلومات ذات الطابع السري الحميم والتي تتمحور حول الطابع الديني والمذهبي والنقابي والعرقي والشخصي. وضع نماذج اتفاقات جماعية الزامية بين القيمين على الكومبيوتر والافراد المعنيين لضمان حماية المعلومات. اعادة التوازن الى مبدأ فصل السلطات بما قد يسببه جمع المعلومات وتكديسها في ايدي السلطة التنفيذية لان الشخص الذي يقتني المعلومات وحده يمكنه اتخاذ القرار مما يسقط دور السلطات الاخرى ويهمشها.

ينتقل المؤلف بعد ان يعرض الحق في الصورة وفي حرمة الحياة الخاصة في دساتير الدول العربية وانظمتها، الى فصل يعقده عن الحرب الاميركية العراقية التي كانت ضحية الصور الاعلامية. فيرى ان حماية الحقيقة واجبة كحماية حياة الصحافيين، وان الحقيقة التي ليس لها اعلام مموّل وذكي تسقط امام اكذوبة يروجها اعلام ممول وذكي، ويجعل منها حقيقة. وقد استخدم الجيش الاميركي في غزوه للعراق الاعلام فحوّل اكاذيب الغزو الى حقائق، فانتصر قبل سقوط بغداد. وما استهداف الصحافيين بالقصف الذي تركز عليهم في فندق فلسطين الا لانهم يجسدون الصورة الاخرى للحرب، الصورة التي لا تريد اميركا تظهيرها او اظهارها، وهكذا اعتبرت القتلى والجرحى ضحايا انحراف انساني اراد القضاء على القوة التي تملكها الكاميرا، قوة نقل الصورة الممنوعة.

يختم الدكتور نقولا فتوش كتابه بالدعوة الى استعادة انسانية مشروخة بين الظاهر والباطن، لا نستطيع استعادتها الا بتشكيل انسانية توحد المظهرين، لان الظاهر توّاق لان يستبطن في الآخرين، والباطن توّاق لان يظهر. وهذا المتحد يستديم في تألق الشخصية، وكلما جاء هذا التألق، كان العبور الى الآخرين مكرماً، وسقط الجدار الفاصل بين الحق في الحياة الخاصة والحق في الصورة.

كتاب في القانون ممتع يستخدم لغة مرنة بعيدة عن لغة القانون الجافة، ترطب مضامينه امثلة يومية حيّة، ونماذج معروفة ومتداولة من الحياة، يستفيد من شيوعها في تقريب وجهة نظرة لغير المختصين. كتاب يقوم على اقتراحات قوانين استباقية نحتاجها لتنظيم ما يتراءى مستقبلاً اكثر من قوانين تلهث وراء المستجدات.

قوانين تعتمد الاخلاق محوراً، تستطيع الدول ان تصدرها للحد من جشع الناشر والمصور في استغلال حياة الافراد الخاصة. ولا خوف منها على الاعلام لان احداً لا يستطيع اصدار قانون يمنع جشع القارىء في الاعلام والمعرفة.

=