فرح بهلوي تستعيد اللحظات السريعة الزوال مع الشاه وتتمسك بأمل رؤية إيران

التقت الإمبراطورة السابقة أكثر من أي امرأة أخرى في التاريخ الحديث معظم قادة العالم إلا أنها لم تكتب شيئا

TT

جرت العادة ان تكون للقصص الخيالية، فيما يعج وسط القصة بأحداث مروعة لتنتهي نهاية سعيدة. اما اكثر القصص رواجا فهي تلك التي تتحول فيها بنت تواجه المعاناة الى اميرة، ويصير فيها الضفدع اميراً. قصة فرح بهلوي يمكن تصنيفها في خانة هذا النوع من القصص. فقد كانت طفلة من اسرة ايرانية تنتمي الى الطبقة الوسطى قبل ان يختارها القدر، إن جاز التعبير، لكي تصبح ملكة لبلاد فارس وامبراطورة لإيران. إلا ان حياة فرح بهلوي على العكس تماما من قصص الاطفال الخيالية. فكل الاحداث السعيدة وقعت في البداية والمروعة منها في الوسط، فيما كانت نهاية القصة عادية ان لم تكن كئيبة. يبدأ كتاب فرح بسرد سريع لطفولتها في ايام الاضطراب التي اعقبت الحرب العالمية الثانية التي تعرضت ايران خلالها للغزو والاحتلال بواسطة جيوش الحلفاء. وبنهاية عام 1945، عندما انسحب الحلفاء من ايران ظهر الجيش المهزوم بوصفه المؤسسة الايرانية الوحيدة القادرة على إعادة توحيد البلاد. كان رمز ذلك الجيش هو ولي العهد محمد رضا بهلوي، الذي لم يتعد عمره في ذلك الوقت 26 عاما، وذلك قبل ان يخلف والده كملك ملوك (شاهنشاه). تتذكر فرح كيف ان الاسر الايرانية العادية، مثل أسرتها، كانت تنظر الى الشاه الشاب بمزيج من الاعجاب والرهبة. فحقيقة ان والدها، الذي توفي عندما كانت طفلة، كان ضابطا في الجيش ربما عزز من هذه النظرة الى الشاه الشاب.

ما كان يعرفه قليلون فقط في ذلك الوقت هو ان الحياة الخاصة للشاه كانت في حالة فوضى وتشويش، اذ أجبر على الزواج من الاميرة المصرية فوزية كجزء من الترتيبات السياسية التي اجراها والده في وقت سابق. واسفر ذلك الزواج عن ابنة هي الاميرة شاهناز، لكنه لم يعزز علاقات الزوجين الشابين. فالكثير ممن كانوا يعرفون الشاه وفوزية في ذلك الوقت كانوا يدركون جيدا ان الزواج بينهما لن يستمر كثيرا. إلا ان فرح نفسها لم تكن تدرك ذلك. ففي ذلك الوقت كانت في السابعة من عمرها وبدأت تعليمها في مدرسة تديرها راهبات كاثوليكيات في طهران. لم تتزوج فرح الشاه إلا بعد 12عاما من ذلك الوقت. وخلال تلك الفترة دخل الشاه تجربة زوجية غير سعيدة لدى اقترانه بحسناء من اصل إيراني/ ألماني تدعى ثريا اصفاندياري. لا شك ان الشاه كان يكنّ حبا لزوجتيه الاوليين. لكن فوزية كانت تكره العيش في ايران ولم تتحمس مطلقا لزواجها الذي جرى ترتيبه بواسطة كبار الاسرتين. أما بالنسبة لثريا، فإن فشلها في انجاب وريث للعرش كان عائقا اساسيا لم يستطع الشاه التغاضي عنه. إلا ان الشاه وافق على مضض تحت ضغوط السياسيين على الموافقة على طلاق ثريا. عملية البحث عن زوجة جديدة للشاه استمرت أكثر من عشر سنوات رشحت له خلالها عشرات الفتيات للزواج منهن، بمن في ذلك الاميرة الايطالية غابريللا ونجمة هوليوود غريس كيلي، بالاضافة الى ست حسناوات ايرانيات يتحدرن من اسر ارستقراطية محلية، إلا ان كل ذلك لم يؤثر في الشاه. وقبل ظهور فرح في المسرح كزوجة محتملة له، توصل كثيرون الى خلاصة مفادها ان الشاه، الذي بلغ عمره في ذلك الوقت 40 عاما، لم يعد راغبا في الزواج. لكنه، كما يعرف الجميع، تزوج في وقت لاحق. تحكي فرح مقابلاتها الاولى مع الشاه بشيء من المودة والبعد في نفس الوقت. ونعتقد أن هذه الأجزاء تعتبر الافضل في المذكرات. ليس من الصعب معرفة السبب وراء اهتمام الشاه اللافت للنظر بالجمال الأخاذ لفرح وافتتانه به. كانت تلك هي المرة الاولى التي يختار فيها الشاه بنفسه شريكة حياته. كما انها كانت المرة الاولى التي يقابل فيها شابة من الطبقة الوسطى صاحبة تفكير مستقل ومسؤولية وانضباط. كانت فرح في ذلك الوقت تدرس الهندسة المعمارية في باريس وتتطلع الى متابعة عملها في هذا المجال لدى عودتها الى ايران التي كانت في ذلك الوقت في بداية ازدهار اقتصادي تاريخي. كانت في التاسعة عشر من عمرها ولم تفكر في الزواج من أي شخص، دعك من الشاه نفسه، إلا ان الشاه السابق نجح فيما يبدو في إغرائها ليس من خلال منصبه كملك أو من خلال ألقابه، مثل «ملك الملوك»، وإنما من خلال دفئه وانسانيته.

وظفت فرح ربع مذكراتها تقريبا لأحداث سارة شكلت في واقع الامر فترة قصيرة من العشرين عاما التي كانت خلالها امبراطورة. فهي تبدو وكأنها تحاول ان تستعيد ذكريات تلك اللحظات السريعة الزوال كي تتذوق الطعم المميز لتلك الفترة. وتسمى هذه الحالة في علم النفس بـ«الحنين الحاد».

منتصف الكتاب، حيث سردت فرح الكثير من نشاطاتها كملكة، يعتبر الجزء الاكثر اثارة للإحباط، فقد تحدثت بإسهاب حول مسائل ليست ذات اهمية، فيما تحدثت باقتضاب عن مسائل اخرى وقضايا ذات اهمية خاصة. ومن المعروف، أنه توفرت لفرح فرص، اكثر من أي امرأة اخرى في التاريخ الحديث، للقاء قادة العالم على مدى ما يزيد عن عقدين من الزمن، إلا انها لم تكتب شيئا يذكر حول هذا الجانب. ويلاحظ قارئ هذا الجزء الاستخدام الواسع للكليشيهات وكأن فرح لا تزال ملكة وبالتالي تكون مضطرة لاستخدام التعليقات والتعابير المبهمة المعروفة في حقل الدبلوماسية. باستثناء الرئيس الراحل انور السادات، الذي وجد الكثير من الاشادة والإطراء، لم توضح فرح ديبا في مذكراتها موقفها إزاء زعماء الدول الذين خانوا الشاه رغم استمرارهم في التظاهر بالولاء له حتى النهاية. ولا بد للمطلع على الكتاب ان يقرأ بين السطور ما كانت تشعر به فرح ديبا ازاء الكثير من الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات الذين توددوا ونافقوا واستغلوا محاباة الشاه لهم قبل التخلي عنه في وقت حاجته. يلحظ القارئ لمحة من المرارة في الفصول التي خصصتها فرح ديبا لهجرة الشاه النهائية الى الولايات المتحدة. ويشير ما كتبته المؤلفة هنا الى خطأ اعتقاد من يظنون ان قوة عظمى على استعداد للتضحية بمصالحها من اجل الصداقة. ظل الشاه صديقا وحليفا للولايات المتحدة منذ منتصف الخمسينات على الاقل. وفي واقع الامر، فإن واحدة من اهم نقاط الهجوم على حكمه من جانب اعدائه السياسيين الكثيرين ان نظامه اصبح جزءا من شبكة اميركية عالمية للهيمنة على العالم، ففي عام 1979 لم يكن لدى الولايات المتحدة حليف وصديق مقرب مثل الشاه. وفي نفس الوقت تمكن الشاه بمرور الزمن من تأسيس علاقات صداقة متينة مع الكثير من الاميركيين المتنفذين. فقد ساعد على تمويل حملات انتخابية لرؤساء اميركيين واعضاء في الكونغرس وحكام ولايات على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود. كما تمكن من رشوة صحافيين اميركيين أغدق عليهم هدايا ثمينة مثل الكافيار والسجاد الفارسي والساعات الذهبية وعطلات الترف والرفاهية، كما احتفى بمن يطلق عليهم «الشخصيات التلفزيونية» خلال زياراتهم لطهران. حصل الشاه على شهادات دكتوراه فخرية من 22 جامعة اميركية، بما في ذلك اكثرها شهرة في العالم. وضمت قائمة «الاصدقاء الشخصيين» له العديد من رجل الاعمال والمصرفيين وحتى نجوم السينما الاميركيين. وظل الشاه يعتقد انه حظي بكل ما حظي به من اهتمام وتشريف من اجل شخصه، ربما لأنه كان يعتقد انه مفكر عظيم او مصدر للمعرفة. ولم يدرك انه اشترى كل ذلك بالمال تماما كما يشتريه أي شخص آخر. إلا ان الشاه لم يجد وقت الضيق أيا من اصدقائه الاميركيين بجانبه. كان الإمبراطور السابق، الذي أجبر على مغادرة الوطن إلى المنفى واستضافه السادات في القاهرة، يعاني من السرطان، وفي حاجة الى علاج طبي غير متوفر في القاهرة. وقد رفضت فرنسا وبريطانيا السماح بمنحه تأشيرة دخول. وكان عليه اللجوء الى الولايات المتحدة.

غير إن ادارة كارتر كانت مترددة في البداية في اصدار تأشيرة دخول للشاه. خشية من احتمال وفاته وتحميلها مسؤولية ذلك، وفي النهاية وافق كارتر على اصدار تأشيرة لمدة ثلاثة اشهر على اساس «انساني».

ولكن وفقا لرواية فرح التفصيلية عما حدث، فقد جرى كل شيء لإشعار الشاه بأنه شخصية غير مرغوب فيها في الولايات المتحدة. فقد طلب منه الذهاب فورا الى مستشفى نيويورك وعدم مغادرة حجرته إلا لأغراض طبية داخل المستشفى. ولم يتصل به أي من اصدقائه الاميركيين، ولم يبعث أحد بباقة زهور. وكان العاملون في المستشفي عدوانيين. فبعد مشاهدة التلفزيون، الذي كان يعرض آنذاك صور الاسرى الاميركيين في طهران، اعتبروا الشاه طاغية تسبب في متاعب لنفسه وللولايات المتحدة.

غير ان الأسوأ لم يحدث بعد، فقد وافقت ادارة كارتر التي كانت تجري مفاوضات سرية مع ملالي النظام الخميني في ايران، على تحويل الشاه الى سجين افتراضي مقابل الإفراج عن الاسرى الاميركيين في طهران. فابلغ وفرح ان عليهما مغادرة نيويورك لجهة غير معلومة. ثم نقلا الى قاعدة جوية في سان انطونيو بولاية تكساس، حيث القي الشاه في غرفة صغيرة بلا نوافذ، بينما وضعت فرح في غرفة لها باب لا يمكن فتحه من الداخل. وأبلغا ان عليهما مغادرة الولايات المتحدة بعد إيجاد دولة اخرى مستعدة لاستقبالهما. رواية فرح عن احداث تجربة الترحال الطويلة من مصر الى المغرب، ثم الى الولايات المتحدة والمكسيك، ثم الى بنما والى مصر مرة اخرى، مؤثرة للغاية لأنها لم تسمح لمرارتها بالظهور على السطح. ان المعاناة بكرامة هي دائما من علامات الروح العظيمة، وكانت فرح تملك تلك الروح.

غير ان المجال الذي لم تكن فيه مخلصة تماما هي روايتها عن السياسة الايرانية في عهد الشاه. فقد حاولت ان تنسب كل الامور الجيدة للشاه ولنفسها، بينما حملت رجال السياسة والبيروقراطيين وغيرهم مسؤولية الاشياء غير الحميدة. وادّعت ان الشاه لم يعرف باستخدام التعذيب في السجون الايرانية ضد السجناء السياسيين، وهو أمر غير صحيح. ففي نظام مركزي مثل النظام الايراني في عهد الشاه، يستحيل عدم ابلاغه بمثل هذه الموضوعات الحساسة.

حقيقة الأمر أن التعذيب توقف عام 1976، عندما أمر الشاه بوضع حد له لظروف لا يمكن شرحها هنا. كما إن فرح لم ترد أن تعترف بأن الشاه، خلال العقد الأخير من حكمه، أبعد نفسه عن شعبه، مستسلما للوهم القائل إنه يمكن أن يلعب دورا عالميا. ونادرا ما كان يتجول داخل إيران في سنواته الأخيرة. وكان الإيرانيون يرونه خلال زياراته الرسمية للدول الخارجية واجتماعاته بالزعماء العالميين. وتحولت طهران في تلك الأيام إلى مركز للسياسة الدولية. ونادرا ما كان يوم يمر دون أن يصل زعيم عالمي في زيارة للبلاد. وكان من ضمن هؤلاء رؤساء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين وفرنسا وألمانيا، ورؤساء وزارات اليابان والهند وبريطانيا. وكان المشاهير أيضا يزورون طهران زرافات ووحدانا. وكان الكتاب المشهورون، ونجوم السينما والموسيقيون والفنانون ورجال الأعمال يحرصون على الزيارة مرة في السنة على الاقل.

كان هؤلاء يزورون الشاه ويمدحونه، كما كانوا، بوعي أو بلا وعي، يدفعونه نحو تضخم الذات. والنتيجة كانت أن الشاه صار يشعر أن مشاكل إيران، البائسة والصغيرة، أصغر من أن تشغل انتباهه السامي. وقد اجرى خلال العشر السنوات الأخيرة من حكمه عددا كبيرا من المقابلات مع الصحافيين الأجانب ووسائل الإعلام الأجنبية ولكنه أجرى مقابلتين فقط مع صحافيين إيرانيين. وقال في واحدة من تلك المقابلتين: «شكرا لله أنه ليست لدينا أية مشاكل في بلادنا. وهكذا نستطيع أن نساعد الأمم الأخرى على حل مشاكلها».

الغرور خطير في كل الأوقات والمناسبات. ولكنه يصبح قاتلا عندما يستولي على رجل طيب. وكان الشاه رجلا طيبا. فالإنسان الشرير لا يبلغ درجة من السذاجة تجعله يصدق الدعاية التي تطلقها وسائل إعلامه. إحدى خصائص مذكرات فرح، أنها يمكن أن تعتبر مظهرا من مظاهر القوة، كما يمكن أن تعتبر في نفس الوقت مظهرا من مظاهر القوة. وهناك حيز في المذكرات تخصصه للتقارير الطبية للبروفيسور جورجس فلاندرين، أحد الأطباء الفرنسيين للشاه. وتوضح هذه التقارير الصورة كاملة، فيما يتعلق بمرض الشاه الذي بدأ منتصف السبعينات، والذي احتفظ به سرا حتى عن فرح. وربما يكتشف القارئ العادي أن هذه التقارير مملة وأن لغتها العلمية غير مفهومة. ولكن دارسي التاريخ سيقيمون هذه التقارير تقييما عاليا لأنها توضح كل مراحل العملية التي أدت إلى وفاة الشاه في المستشفى العسكري بالقاهرة. أما الفصول الأخيرة من كتاب فرح فتبدو وكأنها تحقيقات من مجلة «هالو»، وهي تصور حياة بلا ملامح تحاول فيها الامبراطورة السابقة تعزية نفسها مع أحفادها. كان الموت المأساوي لابنتها الصغرى، الأميرة ليلى، لحظة مفجعة. أما غير ذلك فالحياة تسير سيرها العادي. حياة الألم والمنفى، التي تضيئها لحظات قصيرة عابرة من الأمل، بأنها ربما تتمكن من رؤية إيران يوما ما.

=