ميشيل عفلق وميشيل عون.. العلاقة المستحيلة

فايز قزي يعود مهزوما إلى «طائفته» ويرتد على أفكاره السابقة في كتاب يقول عنه إنه «رحلة غير عقائدية»

TT

لعب مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق والجنرال ميشيل عون، أدواراً استثنائية في الحياة السياسية العربية على مستوى الدولة والحكم والمجتمع، وإن كان تأثير الأول منهما فكرياً أوسع وأعمق وأخطر على مدى أكثر من نصف قرن. أما الثاني فقد كان لدوره العسكري في بضع سنوات فاصلة من الحياة السياسية اللبنانية، تأثير لا ينكر، لكن يبقى محدوداً حتى على مستوى لبنان. وكلاهما في كتاب «تجارب في علاقة مستحيلة» للمؤلف فايز قزي، يرسمان مسيرة الكاتب، الأول بدايات حياته السياسية، والثاني نهاياتها، نتائجها تختتم تجربته الطويلة في الحياة مع القومية والسياسة.

هل هذا الكتاب، كما يقول صاحبه، رحلة غير عقائدية وليس كتاب تاريخ وفكر وسياسة؟ على العكس، هو أكثر من رحلة عقائديةً. وبالدرجة الأولى، إنه كتاب خارج من ركام الانهيار القومي، يفرد معاناة شخصية تبلور مسيرة ذاتية، تقصاها المحامي فايز قزي، القومي المسيحي اللبناني، تبدأ من الالتزام بحزب البعث العربي الاشتراكي، إلى الوقوف مع أحزاب القوى الوطنية اللبنانية ضد التحالف المسيحي، إلى الجانب الفلسطيني في المعركة ضد إسرائيل ثم، الوقوف على الحياد، والانصراف إلى متابعة ملفي المهجرين وميشيل عون.

لا يعنَى قزي بالأحداث بحد ذاتها، وإنما بالقضايا المرتبطة بها: كلبنان والمسيحيين، العروبة والإسلام، القومية، النضال المسلح، وتاريخ لبنان الحديث ذلك الذي يكرر بوجه أو بآخر، تاريخ لبنان القديم منذ عام 1860 وما قبل، إلى ما بعد الاستقلال، عبر محطاته القاسية والدامية، الطويلة والمتقطعة.

منذ تخليه عن الالتزام بـ«مسيحيته» إلى الإيمان بالقومية العربية وانتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، إلى ثورة 1958 والمرحلة الناصرية، فالحرب الأهلية اللبنانية، شارك قزي إلى جانب الحركات القومية والتقدمية، مؤيداً للثورة الفلسطينية ومنافحاً عنها، وجلب على نفسه غضب القوى الانعزالية اليمينية المسيحية. كذلك، خصامه مع بعض أجنحة الحركة الوطنية، وتصديه «لتجاوزات وأخطاء كان سببها تصرفات غير مسؤولة لبعض قادة وعناصر حركات المقاومة الفلسطينية». من موقف إلى موقف يتجلى الواقع العربي على أرض لبنان بأشكاله الأكثر دموية وعبثية، إلى ذلك الموقف الأخير الذي أعاد الكاتب مهزوماً إلى طائفته، ومرتداً على أفكاره السابقة.

الحصيلة الأخيرة في رأي قزي، أن انفتاح لبنان أمام مشاريع العرب القومية شكل خسارة سياسية واجتماعية واقتصادية للبنانيين، كما أن الفكرة القومية لم تحمل وعوداً حضارية اشمل. أما عروبة فلاسفة الفكر القومي، فلم تحقق مفهومها عن الذوبان في الوحدة العربية، وإنما الهيمنة في العلاقات الثنائية. إن الانعزالية المسيحية، ما هي إلا رد فعل على المواقف المشبهة بالوطنية والقومية، التي دفعت الأقلية إلى التقوقع في شرنقتها ليس حفاظاً على معتقداتها الدينية فقط، بل حفاظاً على مكتسبات اجتماعية وسياسية واقتصادية وحضارية. هذا الموقف السياسي للمسيحيين، كان مواجهة لدعوة الذوبان في موقع حضاري أقل ما يرونه فيه أنه مختلف عن موقعهم، إن لم يكن مخالفاً لهم، ولا يخفي المشروع رغبته بالهيمنة عليهم، بل أن الجوار حاصرهم وراح يهددهم ويستعمل بعضهم ضد بعض مستغلاً تركيبة نظامهم الاجتماعي الهش لتحطيم نظامهم السياسي. في الوقت الذي أخذ فيه الإسلام السياسي الحديث، يطرح أفكاره حول تبعية المسيحيين في الدولة المسلمة.

أفكار قزي صريحة، لا تقبل التأويل. ثمة انقلاب على مسيرته السياسية والفكرية نحو التقوقع، بالقياس إلى بداياته المنفتحة، ونتائج هذا التراجع لا تخفي تطرفه نحو الطرف المغاير، والدفاع دفاعاً ذاتياً محكماً عن طروحاته الجديدة. لكننا إذا أردنا ألا نغفل الكتاب حقه، ونظرنا إليه من زاوية التجربة الشخصية المؤلمة التي خاضها، فهو كتاب جريء، عميق في إنسانيته ومخاوفه، ولا تأتيه هذه النفحة من الحدية، إلا لمرارة التجارب والتكاليف الباهظة التي نتجت عنها، وتحمّل أعباءها اللبنانيون. ولا شك في أن الكتاب محاولة فريدة وشجاعة في مواجهة الذات والمجتمع والوطن. تجربة التعايش التي خاضها لبنان لم تخفق، كما أنها لم تكن مثالية، لكنها كانت تجربة أكدت عدم التعارض بين المسيحية والعروبة، إذ العروبة مسيحية أيضاً، كما ان المسيحيين تراثهم الثقافي إسلامي، وقد اسهموا فيه وكانوا جزءاً منه. هذا ما نراه على الرغم من التدخلات الخارجية التي كانت تجد طريقها إلى لبنان، تطل من ورائها أوروبا (فرنسا وإنجلترا وروسيا)، وحالياً أميركا. مطامع الأوروبيين لم تعدم ثغرات في البنيان اللبناني ولم تتورع عن استغلالها. لكن «التعايش»، كما يقول المؤلف بحاجة دائماً إلى التأسيس على علاقة ممكنة، بل وتعمل على أن تتأسس باستمرار. يصادر قزي، الحاضر والمستقبل، فإذا كان الحاضر يعاني من الارتباك وأوزار الماضي، فوعود المستقبل مفتوحة ولا تحتاج إلى مجرد الأمل وإنما إلى الإيمان والعمل والاعتقاد الجازم بأنه يمكننا أن نفعل شيئاً. كما يصادر دعاوى الاجتهاد في الإسلام، في حين المنطق الإسلامي لا يعادي ولا ينبذ شرعة الحقوق الدولية، لأنه ليس ثمة حقوق قاصرة على شعوب دون أخرى. الدين يضع أصول العقائد، أما القوانين فيضعها البشر، وهي عائدة إلى الناس، يسهمون في تعديلها وتغييرها بل وإلغائها، تبعاً للظروف وتبدل الأحوال. الأفكار التي تطمح نحو العدالة والأفضل، وتلك التي تنحو إلى النهوض سواء على الحامل القومي أو الإنساني أو الديني، لا يمكن إدانتها إدانة نهائية، كما يقول. إنها لم تخترع أو توجد إلا بسبب الحاجة إليها، لذا هزيمتها مؤقتة. تتراجع الأفكار ولا تغيب عن الواقع، تتراجع لتعيد رص صفوفها ومراجعة طروحاتها، وعودتها مرهونة بمقدار تعاطيها مع الواقع، وقبولها بإجراء تغييرات وتجديدات يحتمها الواقع والبشر معاً.

لبنان في رأيه لم يكن «تجربة فريدة»، كما تتكلم الغالبية العظمى من الكتاب والمنظرين، لبنان لم ينجح حتى الآن في أن يكون ما حلم به، وما رغب في تحقيقه من تجربة فريدة. الاتجاهات الطائفية بأنواعها والقوموية والأصولية المتأسلمة والمسيحانية، وتلك المتعلقة قلوبها بأم بعيدة يفصلها عنها البحر، اتجاهات استثمرت دعاوى ومصالح الفرقة لا التوحد، وكانت مثل غيرها من أسباب التنازعات. لبنان أسير الجغرافيا، يسقط معها وينجو بها، إن مجرد فكرة اختراع وطن في الشرق وفي الوقت نفسه معزول عنه، ما هو إلا قفزة نحو مجهول بلا جدوى، وواقع مختلق، أورث لبنان حروباً أهلية لم تقصر بشاعتها عن الحروب العنصرية الكبرى في التاريخ.

كما أن الأمراض اللبنانية ليست أمراضاً لبنانية بحتة، إنها بالتأكيد أمراض عربية، لا يمكن فصل لبنان عن محيطه العربي، العدوى لا تتم باللمس فقط، إنما بالهواء أيضاً، هذه المنطقة تتنفس الهواء نفسه، وتعاني ضيق التنفس ذاته. عندما تجد مجتمعاتنا العربية علاجاً صحيحاً لأمراضها المزمنة، سيجد لبنان طريقه إلى الشفاء. ليس بوسع أحد عزل لبنان، تحت لافتة كيان أو نظام أو دين، أو أية تركيبة طائفية، أو ترتيب لمجموعة طوائف، لن تتماثل أوطاننا الصغيرة وتنهض، طالما الوطن الكبير يئن تحت ثقل أوهامه. في الختام، يقول المؤلف:«فإنْ كان الوطن سيفرض عليناً نظاماً من العيش ذمياً أو غير متكافئ أو حتى نظاماً غير ديمقراطي، فإن أسلافاً لنا اختاروا بالسليقة الهجرة والطلاق. ونحن ربما ننجو ونتحضر بتقليد خطاهم.. وعذراً ممن لم يفهم بعد... أن الإنسان أهم قيمة من الأوطان والأديان». وفي الختام نقول: ما الذي أوصل قومياً عربياً إلى أن يقول هذا القول، وكأنه مسك الختام، والخلاصة الراسخة لتجارب عمر؟.