عصر الجماهير الغفيرة بين مصر وأميركا

جلال أمين يتناول التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية في النصف الأخير من القرن الماضي

TT

من الممكن اعتبار كتاب «عصر الجماهير الغفيرة 1952 ـ 2002» للدكتور جلال امين استاذ الاقتصاد بالجامعة الاميركية بالقاهرة امتداداً لكتابه السابق «ماذا حدث للمصريين» غير ان الكتاب الحالي يركز على الآثار المترتبة على زيادة حجم الجزء المؤثر من السكان، بصرف النظر عن التغيرات التي لحقت المركز النسبي لهذه الطبقات أو تلك، عبر تناوله عدداً من الظواهر المهمة التي تأثرت بهذه الزيادة في الحجم المطلق مثل الثقافة والاقتصاد والصحافة والتلفزيون والسيرك والحب والسياحة والسوبر ماركت وغيرها.

ويشرح أمين في الفصل الأول من كتابه أهمية ظاهرة الجماهير الغفيرة وارتباطها بالظاهرة الاميركية التي أثرت في العالم كله، مورداً ثلاث ملحوظات الأولى، حول العلاقة بين بزوغ الجماهير الغفيرة والتقدم التكنولوجي إذ أن ـ كما يقول الكاتب ـ أغلب الأفكار الاشتراكية راديكالية، فلا يكفي توصيل طيبات الحياة الى شرائح واسعة من المجتمع اذا لم يكن هذا المجتمع منتجاً وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على فكرة دولة الرفاهية وأهداف التنمية الاقتصادية.

الملاحظة الثانية التي يوردها الكاتب تنصب على تفاوت درجة التقدم نحو مجتمع الجماهير الغفيرة بتفاوت درجة التقدم التكنولوجي، وهو ما يفسر التقدم الذي أحرزته الدول الاسكندنافية بعد عشرين أو ثلاثين سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية بالمقارنة بما حققه الاتحاد السوفياتي لشعوبه. والملاحظة الثالثة تتعلق بالولايات المتحدة التي بدأت فيها ظاهرة الجماهير الغفيرة بعد خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية سياسياً واقتصادياً.

ويربط امين بين عصر الجماهير الغفيرة، والعصر الاميركي وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العشرين سنة الأخيرة مع اقتران ذلك بالتفوق الاميركي الاقتصادي والسياسي والعسكري، وانتشار ما يسميه ـ نمط الثقافة الاميركية ـ في مختلف أنحاء المعمورة. وتجلى ذلك في انتشار افلام هوليود وساندويتشات الماكدونالدز وزجاجة الكوكا كولا، والسراويل الجينز، وأنواع البرامج التلفزيونية القائمة على المسابقات، وصحف الفضائح والجرائم.

ان الرأسمالية، كما يرى المؤلف، تنفي الثقافة بمعنييها الانثربولوجي الواسع، او الفكري الضيق، إذ أن الرأسمالية بما تجلبه من حضارة السوق تقوم أيضاً بالمقارنة بالنظم السابقة عليها، على الانتاج الواسع ـ عدو التفرد ـ إذ من الممكن أن نعد ـ كما يشير الكاتب ـ أن غزو «البلوجينز» للعالم بأسره، من قبيل غزو ثقافة لأخرى. ولكن من الممكن أيضاً أن نعتبره نفياً للثقافة أصلا، إذ أنه يتعلق بنوع الملبس الذي يميز فرداً عن الآخر، وأمة عن الأخرى.

يتناول الكتاب في الفصل الثالث دخول مصر الى عصر الجماهير الغفيرة مع بداية ثورة يوليو، مشيراً الى ان جمال عبد الناصر كان كثيراً ما يصف المجتمع المصري قبل الثورة بأنه مجتمع النصف في المائة، ويقصد بهم الذين يسيطرون على مصر ويتخذون القرارات ويستمتعون بمزاياها من التعليم حتى التصييف. ولم تدخل مصر عصر الجماهير الغفيرة بعد قيام ثورة يوليو، بسبب زيادة نسبة السكان فقط، بل بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ساهمت في زيادة الحجم الفعال للسكان، أي الحجم المؤثر والمقرر لنمط الحياة.

واعتمد عصر الجماهير الغفيرة المصري على كثير من النمط الاميركي لسببين; الأول الاعتماد الكبير على المعونة الأميركية بين عامي 1958 ـ 1965، والتي توقفت تماماً عام 1967، بالاضافة الى إذعان غير مسوّغ للمطامح الاستهلاكية لدى الطبقة المتوسطة.

وقد تفاقم هذان العاملان في السبعينيات والعقدين التاليين لهما، مما أدى الى زيادة المديونية للولايات المتحدة والغرب عموماً بمعدلات مذهلة، كما اشتدت قوة النزعة الاستهلاكية لدى أصحاب شرائح الطبقة الوسطى من المصريين. ويفرق الكاتب بين مرحلتي عبد الناصر والسادات، إذ يرى ان حرية الحركة في الاولى كانت أكبر، واستقلال الارادة أوسع بسبب ظروف الحرب الباردة «1955 ـ 1965» والتي طرأ عليها تغير كبير في منتصف الستينيات، وهو ما سمح بأداء أفضل.

ثم يتناول الكاتب في الفصول التالية جوانب متعددة من الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر والتي تأثرت بما يمكن تسميته بعصر الجماهير الغفيرة من ناحية، والعصر الاميركي من ناحية أخرى: الاقتصاد والثقافة والصحافة والتلفزيون وأعياد الميلاد والدين وغيرها.

أما مسيرة الصحافة في الخمسين سنة الأخيرة، فقد انتقلت، في رأي المؤلف، من الاثارة السينمائية الى الاثارة السياسية في الستينيات، ثم الى الاثارة الدينية في السبعينيات ثم الاثارة الجنسية في التسعينيات، وكل هذا يحمل طابع التبسيط الشديد الذي يلائم الجماهير الغفيرة من القراء.

ويقترح الكاتب في فصل لاحق ان يسمى نصف القرن الأخير «عصر التلفزيون» الذي بدأ في مطلع الستينيات، وكان مقتصراً على شريحة اجتماعية صغيرة هي القادرة على دفع ثمن الجهاز ، وتسكن بيوتاً مزودة بالكهرباء. وفي مطلع الثمانينيات أدى تيار الهجرة الكاسح الى دول الخليج ـكما يضيف ـ الى زيادة القوة الشرائية لدى شرائح اجتماعية واسعة لم تكن أحوالها المادية تسمح من قبل باقتناء التلفزيون، وهو ما جعل البرامج تستجيب لذوق هذه الفئة الجديدة. ويقارن الكاتب بعد ذلك بين أثر التلفزيون الوطني «المحلي» وما يسميه «التلفزيون المعولم». والفرق بينهما ، في تقدير المؤلف، هو كالفرق بين الأثر على نفسية المشترك في مسيرة تتكون من خمسة أو عشرة أفراد، والسائر في مظاهرة بها عشرات الألوف، في الأولى سيكون الفرد لا يزال يملك القدرة على ممارسة فكره المستقل واتخاذ قراره بحرية، وفي الثانية سيجد نفسه يتصرف كجزء من قطيع، اذا انحرف بقية أفراد القطيع انحرف واذا هتفوا هتف، واذا ضربوا ودمروا ضرب ودمر. يتناول الكتاب أيضاً ظاهرة الثقافة في عصر الجماهير الغفيرة . ويرى انه في الثلاثين عاماً الأخيرة تضافرت عدة عوامل لافساد المناخ الثقافي الذي شهد توهجاً في السنوات السابقة تمثلت في إبداعات يوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وأحمد بهاء الدين ونعمان عاشور وبليغ حمدي وكمال الطويل، وصلاح جاهين وعبدالحليم حافظ ويوسف شاهين.

وأسباب فساد المناخ الثقافي في السبعينيات متعددة منها نمو الدخول والثروات المفاجئة من المضاربة، والهجرة الى الخارج التي أدت الى ارتفاع معدل التضخم وارتفاع معدل الحراك الاجتماعي وضعف الصلة بمستوى التعليم وهو ما انعكس في انضمام شرائح واسعة الى الطبقة الوسطى، ذات قدرة شرائية عالية مع مستوى منخفض من الثقافة وضعف القدرة على التمييز بين العمل الفني الراقي والهابط، بالاضافة الى توفر مصدرين آخرين من مصادر الدخل والثروة للمثقفين بوجه خاص وهما الدولة المصرية من ناحية والهيئات الأجنبية من ناحية أخرى مقابل الترويج لسياسات بعينها.

* عصر الجماهير الغفيرة

* المؤلف: جلال امين

* الناشر: دار الشروق