المجلات أيضا تموت ببطولة

فاضل السلطاني

TT

قال مرة وليم كوكسون، رئيس تحرير مجلة "اجندة" الفصلية الادبية البريطانية، في مقابلة نشرتها "الشرق الأوسط"، ان المجلة مهددة بالتوقف لأسباب مالية، ليس إلا. وحين سألته ماذا سيفعل حينئذ، قال سأموت، فالمجلة هي أنا.

وكان كوكسون قد اصدر "اجندة" عام 1959، حين كان شابا صغيرا بنصيحة ومساعدة من ازرا باوند، كعادته دائما، ثم بمؤازرة من الشاعر البريطاني بيتر رسل الذي ظل يرعاه من بعيد من منفاه الايطالي الاختياري.

ثم مات الرجل العام الماضي قبل موت المجلة، او في اوج احتضارها، وانتهت معهما حقبة من الصراع الضاري من العناد الجميل ضد العصر الذي لم يعد يقرأ.

كان كوكسون يصدر هذه المجلة من بيته، معتمدا على الاشتراكات ومعونات الاصدقاء. وكانت غرفته الخاصة الكبيرة، حيث زرته، هي المكتب والمكتبة والمطبخ والسرير. كانا ينامان معا ويصحوان معا، ولدا وشاخا وماتا.

لم يكن كوكسون يذكر الا وتذكر معه "اجندة"، وكأنها اصبحت اسما ملحقا باسمه، او لقبا له. ونسي الناس شعره ومختاراته وترجماته وبحوثه النقدية.

"رجل ومجلة"، هو ارتباط عرفناه في حياتنا الثقافية منذ الزيات الذي ارتبط اسمه بمجلة "الرسالة"، كما ارتبطت هي به، وكما ارتبط سهيل ادريس بالآداب، وارتبطت هي به، فنسى الناس الروائي صاحب "الحي اللاتيني".

وحين تتوقف مثل هذه المجلات، لاسباب مادية او لغيرها، لا يمكن للمرء سوى ان يشعر بأن هناك شيئا مات.

مات فينا وفي عصرنا، وفي وجداننا. نعم، ان المجلات تموت كالبشر. وقبل ذلك هي تمرض، ثم تتعافى، وتجاهد على البقاء كأي كائن حي ثم تتصلب الشرايين ولا ينفع عندها اي علاج.

آخر المجلات الراحلة هي "الطريق" التي صدرت قبل 26 عاما، انها تتوقف في شيخوختها. والغريب ليس انها توقفت، بل انها عاشت كل هذه السنين العربية، واجتازت المراحل الاخطر في التاريخ العربي والانقلابات الدامية منذ الاربعينات. لقد صعدت مع صعود التيار الماركسي، وتقلبت معه ايضا في محنه، واصابها ما اصاب هذا التيار من انقلابات فكرية، وايضا من انحسار ارتباطا بالمتغيرات العالمية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

لكن "الطريق" التي كان يمولها الحزب الشيوعي اللبناني باعتبارها مجلته النظرية لم تنغلق على اطروحات معينة، بل انفتحت حتى على الآراء النقيضة، وساهمت في اثراء المنظومة الفكرية العربية ابتداء من انطوان ثابت وعمر فاخوري ورئيف خوري ثم حسين مروة ومهدي عامل، الذين بدأوا وكأنهم يسبحون ضد التيار المغلق في الحركة التي ينتمون اليها. ولا شك ان كتّاب التاريخ الموضوعيين لا يمكن ان يغفلوا هذه الحقيقة، مهما تكن اتجاهاتهم، حين يؤرخون مسيرة هذه المجلة، فهي سمتها الاساسية.

وحفاظا على هذه السمة، يعلن محمد دكروب، الذي نتمنى ألا يكون آخر رئيس تحرير لها بمعجزة من المعجزات، ان المجلة توقفت عن تسلم اية معونات مالية من الحزب الذي من المفترض انها لسانها النظري منذ عشر سنوات، حفاظا على استقلالها الفكري. انها نقطة اخرى مضيئة في تاريخ "الطريق".

واذا كان هناك موت اخيرا فهو موت بطولي.