رؤية بوش هي مثل رؤية ولسون لكنها مزودة بعضلات

ايفو دالدر الزميل في معهد بروكنغز بواشنطن وجيمس ليندساي مدير الدراسات في معهد العلاقات الخارجية بنيويورك في كتاب مشترك عن أميركا المنفلتة

TT

«ستكون مفارقة قدرية إذا كان على حكومتي أن تتعامل بشكل أساسي مع القضايا الخارجية، لأن كل تكويني كان من أجل معالجة القضايا الداخلية»..هذا ما قاله وودرو ولسون حينما غادر بيته في برينستون متوجها إلى البيت الأبيض لحضور مراسيم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة. وقد يكون الشيء نفسه الذي سيقوله جورج دبليو بوش الذي أصبح رئيسا حربيا مصرا على فرض القيم الديمقراطية في الشرق الأوسط بينما هو يقتلع الإرهاب من المنطقة ثم في شتى أنحاء العالم. في أحسن الأحوال سيُنظَر إلى الأميركيين كـ«امبرياليين ديمقراطيين» يناضلون بطريقة دونكيشوتية لجعل العالم آمنا للأنظمة الديمقراطية.

في كتاب «أميركا منفلتة» قدم مؤلفان، يتمتعان باحترام كبير كخبيرين في حقل العلاقات الخارجية، رؤية معرفية بشكل كبير حول العلاقات الخارجية في نيويورك حول «ثورة بوش» وحول نظرية التدخل الانفرادي والحرب الوقائية. وهذان هما ايفو دالدر الزميل في معهد بروكنغز بواشنطن وجيمس ليندساي مدير الدراسات في معهد العلاقات الخارجية بنيويورك.

وعن طريق تعزيز الكتاب ببحث موسع تمكن المؤلفان، وبطريقة مقنعة، إظهار أن الرئيس بوش ليس دمية بيد نائب الرئيس ديك تشيني أو بيد صقور البنتاغون. فهو يؤمن بقناعات جوهرية أدت إلى قلب التزامات الولايات المتحدة تجاه الشؤون الدولية. ومثلما وصفها المؤلفان فإن سياسته تستند إلى قناعتين: «الأولى هي أنه في عالم خطر فإن أفضل طريقة إن لم تكن الوحيدة لضمان أمن أميركا هو التخلص من القيود التي فرضها الأصدقاء والحلفاء والمؤسسات الدولية عليها». أما القناعة الثانية فهي «ان أميركا بعد التخلي عن قيودها عليها أن تستخدم قوتها لتغيير الأمر الواقع السائد في العالم».

هذا لا يعني أن على أميركا أن تتصرف دائما لوحدها. فحينما تكون الإجراءات الانفرادية مستحيلة أو متهورة فإن بوش سيسعى إلى الحصول على شركاء، لكنه لن يتخذ قرارات تتطلب تأييدهم. فأسلوبه المفضل هو السعي للحصول وبشكل ارتجالي على «حلفاء راغبين».

ما قام دالدر وليندساي بتوثيقه هو ذلك التحول الذي وقع على رؤية بوش «الواقعية» في استخدام القوة الأميركية إلى رؤية تتحكم بها الآيديولوجيا وهي أقرب إلى رؤية ولسون لكنها مزودة بعضلات. فالفكرة التي ترى القوة بأنها هي التي تملي مصالح البلد تشكل أساس النظرية الواقعية. ولأننا نعيش في عالم خطر فإن ذلك يترتب عليه تعريفه بشكل قريب من تعريف توماس هوبز الذي كان يرى الحياة كـ«حرب الجميع ضد الجميع»، بينما الواقعي يرى السياسة بأنها التعامل مع العالم كما هو لا كما يجب. أما القوة بالنسبة لرؤية «الهيمنة» فهي «العملة المستخدمة في العالم حتى حينما تسوده العولمة تماما». فالدولة ـ الأمة ما زالت حية وفي صحة جيدة والقوى العظمى هي الأكثر أهمية من غيرها.

ومثلما حاجج بوش ذات مرة حينما قال إن «القضايا الأكبر ستكون الصين وروسيا». ومع القوة العسكرية والاقتصادية التي تمتلكها الولايات المتحدة والتي ليس لها أي منافس سيكون «الأمن في العالم هو كيف سنتعامل مع الصين وكيف سنتعامل مع روسيا». ستسمح القوة الأميركية للولايات المتحدة للقيام بعمل انفرادي بدون خوف أو محاباة طالما أن القوى الأخرى غير قادرة على تحديها بشكل جدي. هذه الرؤية حسب رأي المؤلفَين يحملها بعض مستشاري الرئيس مثل نائبه ديك تشيني ومستشارته للأمن القومي كوندوليزا رايس ويمكن إطلاق تسمية «القوميين الصارمين» على حاملي هذه الرؤية. شخَّص دالدر وليندساي نائب وزير الدفاع بول وولفويتز، وريتشارد بيرل العضو في مجلس السياسات الدفاعية، كزعماء لجناح المحافظين الجدد داخل الإدارة الأميركي، وهذان يجادلان دائما لصالح فكرة «نشر الولايات المتحدة لقواها العسكرية والاقتصادية في العالم إضافة الى قوتها السياسية لتحويله كي يكون صورة للولايات المتحدة، والقيام بذلك سيكون لصالح البلدان الأخرى إضافة للولايات المتحدة».

من جانب آخر يشكك «القوميون الصارمون» بفكرة «بناء الأوطان»، ويحتقرون الفكرة التي ترى «القوة الأميركية قادرة على ما لا يستطيع الآخرون القيام به بأنفسهم». وبعد الهجوم على المركز التجاري الدولي يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 ، تغيرت هذه السياسة لتصبح عاكسة للفكرة التي ترى أن على الولايات المتحدة أن تحارب الإرهاب عن طريق تغيير قلوب وعقول أولئك الذين يساندون الإرهابيين، وأن إعادة بناء الأوطان قد تكون في نهاية المطاف ضرورية من أجل تحقيق التغيير المنشود. لذلك جاء ظهور الامبريالية الديمقراطية أولا في أفغانستان ثم في العراق.

وبرزت إلى السطح أيضا نظرية بوش التي تعرف باسم «الفعل الاستباقي». ففي بداية خطابه الذي ألقاه يوم 1 يونيو (حزيران) 2002 في «ويست بوينت» أعلن بوش عن تخليه الكامل عن سياسة «الردع» الجوفاء والتي ظهرت اثناء صراع الولايات المتحدة لاحتواء توسع الاتحاد السوفيتي في العصر النووي. ففي محاربة الارهاب تكون سياسة «الردع» التي تعد بالانتقام الجماعي ضد الأمم شيئا لا معنى له أمام شبكات الإرهاب السرية حيث لا تكون هناك أمم أو مواطنون عاديون يدافعون عنها.

لذلك مثلت نظرية «الفعل الاستباقي» ابتعادا رئيسيا عن السياسة الخارجية الأميركية. ومثلما حذر دالدر وليندساي حذر نعوم تشومسكي في كتابه «الهيمنة أو البقاء» من أن استراتيجية بوش دمجت الحرب الوقائية بالحرب الاستباقية. فالحروب الوقائية تشرع فيها بلدان ضد دول لم يتم الهجوم ضدها بعد. فهجوم إسرائيل ضد مفاعل أوزيراك العراقي سنة 1981 هو مثال على ذلك. فليس هناك أي دليل يشير إلى أن العراق على وشك البدء بهجوم. وكان هجوم إسرائيل في يونيو 1967 ضد الدول العربية الجارة لها هو حرب من هذا النوع. وكان خطاب بوش لتبرير الحرب ضد العراق هو مثال على الحرب الوقائية لا حربا «استباقية».

ويبالغ تشومسكي، بروفسور الألسنيات في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجياو الذي كتب كثيرا عن القضايا الخارجية، في تصويره لأميركا كامبراطورية للشر، لكنه مع ذلك ثاقب النظرة في استنتاجه الذي يرى أن مبدأ الحروب الوقائية أو الاستباقية يمكن أن يشجع الأمم الصغيرة لحماية نفسها من هجوم أميركي عن طريق الحصول على أسلحة الدمار الشامل وخصوصا النووية منها.

فبدلا من الابتعاد عن الاتفاقيات الدولية الهادفة إلى تحجيم انتشار الأسلحة النووية (على سبيل المثال قطع الطريق على المفاوضات التي جرت في مؤتمر حول نزع السلاح سنة 2001 نظمته الأمم المتحدة) قالت إدارة بوش إنها تريد أن تركز جهودها على السيطرة على انتشار الأسلحة في الفضاء. ويبدو أن تحولا كهذا في السياسة يبدو بالكاد شبيها برئيس يميل إلى الظهور كعمدة مدينة يقود حشدا من السكان أكثر من أن يكون خيّالا مسلحا يبحث عن مواجهة أخرى مع العدو.

«أميركا غير مقيدة»:

مجازات معقدة للسياسة الأميركية الخارجية

المؤلفان : ايفو دالدر وجيمس ليندساي

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»