كيف يمكن الخروج من التخلف الثقافي؟

الباحث التونسي محمود الذوادي يتناول ظاهرة «التخلف الآخر» في المغرب العربي وأزمة الهويات الثقافية في العالم الثالث

TT

عالم الإجتماع التونسي محمود الذوادي ينتمي إلى ذلك الشق الذي يؤمن بأن الاتكال على الذات، هو البديل للعلوم الاجتماعية بالوطن العربي والعالم الثالث. كما سعى في أكثر من بحث معرفي إلى إبراز دور ابن خلدون في إرساء نظرية اجتماعية عربية، تدحض الموقف القائل بأن ابن خلدون هو مؤسس علم العمران وليس علم الاجتماع. وفي كتابه الجديد «للتخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث «يسلط محمود الذوادي الضوء، على ما اسماه بظاهرة التخلف الآخر في منطقة المغرب العربي الكبير. فما المقصود بالتخلف الأخر، وما هي أهم مظاهره في المغرب العربي؟

يقول محمود الذوادي بأن المقصود بعبارة التخلف الأخر هو ما نطلق عليه اسم «التخلف الثقافي» فكلمة الأخر، تفيد في هذا السياق ضمنيا حالة الجهل والنسيان السائدة بين المهتمين بالتنمية والتخلف، حيال المنعوت ألا وهو التخلف. ويضيف الذوادي بأنه لا يكاد يحصى عدد الدراسات الأكاديمية والندوات المحلية والأممية العالمية خاصة منذ الحرب العالمية الثانية حول دراسة ظاهرة التخلف العام وفروعها في العالم، مثل التخلف الاقتصادي والتخلف الصناعي والتخلف الصحي والتخلف العلمي، إلا أنه في مقابل ذلك يوجد صمت مسترسل وطويل خاصة من طرف خبراء التنمية والتخلف أنفسهم إزاء ظاهرة التخلف الثقافي، الذي هو جزء لا يتجزأ من هيكل ظاهرة التخلف الكبرى. فمكتبات المجتمعات الرأسمالية الثالث تكاد تخلو كليا حتى من المفاهيم الأساسية التي يمكن أن تعين الدارس لهذه الظاهرة بأرضيات علمية تسهل عليه التنقيب والبحث العلميين في ظاهرة التخلف الثقافي.

لذلك فقد رأى الذوادي بأن المرء لا يكاد يجد تعارفا ومفاهيم ونظريات حول التخلف الثقافي في كل آلاف أطنان الكتب والمجلات والتقارير المكدسة في تلك المكتبات ذات التنظيم والتسيير العصريين. ومن المدهش والمحير أن يجد المرء هذه «اللامبالاة» حيال ظاهرة التخلف الثقافي منتشرة وشائعة بين المنظمات الأممية والعالمية والعلماء المتخصصين بقضية التنمية والتخلف. ويعتبر صاحب الكتاب أنه لمن المقبول والمستساغ أن يختلف هؤلاء وأولئك حول أسباب ودرجة التخلف الثقافي الذي يشكو منه مجتمع ما في العالم الثالث. ولكن الذي لا تتسامح فيه الروح العلية النزيهة، هو التجاهل الكامل لظاهرة اجتماعية لها معطياتها المادية والمعنوية خاصة في المجتمعات النامية.

فلو كانت هناك نظرة علمية حقة لدى الدارسين لفهم قضية التخلف في العالم الثالث لما نسوا معضلة التخلف الثقافي، وركزوا بحوثهم وجهودهم على الفروع الأخرى لظاهرة التخلف الكبرى فقط كالتخلف الاقتصادي والصناعي والعلمي والصحي.

وحول علاقة التخلف الآخر بالاستعمار، فإن المفكر يعتبر أسباب قصور النظريات خاصة في إعطاء تفسير علمي وموضوعي لظاهرة التخلف بصفة عامة، يرجع إلى حذفها ظاهرة الاستعمار، من حسابها والحال أنها أهم عامل لتفشي ظاهرة التخلف العالمية. وعلى هذا الأساس وصفت هذه النظريات بالنزعة الاستعمارية، ولذا فقد تبنى الذوادي البعد التاريخي لدراسة قضية التخلف فقال إنها، كبقية أوجه التخلف الأخرى المذكورة آنفا، في الدرجة الأولى حصيلة الاحتلال الاستعماري الذي رزحت تحت نيره ما نسميه اليوم بالدول النامية. وطبيعة الاستعمار في شكله القديم والحديث هو استغلال الشعوب وأضعفها إن أمكن على كل المستويات بما في ذلك الاستغلال الثقافي والحضاري. فالاستعمار الفرنسي للجزائر وتونس والمغرب لشاهد على شمولية الطابع الاستعماري الفرنسي. ذلك أن هذه الشعوب لم تضطهد ولم تستغل، كما يدعي أو ينسى البعض، اقتصاديا فقط بل وثقافيا وأيضا ولأن الاهتمام بالتخلف الاقتصادي قد حصل على حساب الاهتمام بالتخلف الأخر. ووضع خبراء التنمية والتخلف خاصة من العالم الثالث الملمح الاقتصادي والمادي في المجتمعات الجديدة مركز الصدارة من اهتمامات كل من التنمية والتخلف من جهة، والهياكل والمؤسسات المختلفة المشار إليها، من جهة أخرى. والحال أن عددا غير قليل من هاته المجتمعات وجدت نفسها يوم استقلالها وبعده في حال يرثى لها اقتصاديا، حتى أن بعض فئاتها كانت تموت ومازالت تهلك جوعا. فجاءت فكرة التركيز على النمو الاقتصادي والمادي نتيجة حتمية وإنسانية.

فأما علماء التنمية والتخلف والنظريات التنموية حسب رأي الدكتور الذوادي فكانوا يرون أن أساس الإقلاع التنموي الحقيقي ينبغي أن يكون ذا أرضية اقتصادية : فنشر التعليم وإنشاء الصناعات والتقنية، ونشر مراكز البحوث العلمية، كمؤشرات لظاهرة التنمية كلها تتطلب اقتصادا يستطيع تمويل وإرساء قواعدها. وأما حكومات هذه المجتمعات فكانت ترى هي الأخرى ضرورة تحسين القطاع الاقتصادي المادي أولا، كحل سريع للضرورات المعيشية اليومية التي يتطلبها جزء لا باس به من أفراد هذه المجتمعات. وثانيا لأن النجاح في الميدان المادي الاقتصادي كان أيضا يعتبر الجسر الرئيسي لأي عبور من ضفة التخلف إلى ضفة التنمية. ومن الأسباب الأخرى التي زادت في الوعي العام لظاهرة التخلف الاقتصادي في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على السواء هو ما يسرته ثورة علم المواصلات من إعلام ومعرفة لمعظم مجتمعات العصر الحديث. فعن طريق الإذاعات وشاشات التلفزة ووسائل النشر الأخرى من صحف ومجلات وكتب.

ويضيف الذوادي لدى استعراضه لبعض مظاهر التخلف الأخر في المغرب العربي بأن اللغة والدين والقيم والتقاليد، هي موارد وطنية كالموارد الاقتصادية أو الطبيعية للمجتمع نفسه مبرزا أن أكثر من دراسة علمية قد أثبتت بأن الاستعمار القديم والجديد يهدفان دائما استغلال موارد البلد المستعمر لحسابه، والنتيجة على المستوى الاقتصادي، كان تخلفا اقتصاديا للمجتمع الذي سقط تحت وطأة الاستعمار. وبتطبيق نفس المنطق فيما يخص الموارد الثقافية، وجد المفكر النتيجة هي ظاهرة التخلف الثقافي في نفس المجتمع المتخلف اقتصاديا. وهكذا يتضح أن لظاهرة التخلف العام فروعا ينبغي أخذها جميعا بعين الاعتبار. وأي إهمال لها يؤدي إلى فهم منقوص وبالتالي إلى ثغرات خطيرة في الجهاد الأكبر ضد معضلة التخلف في المجتمعات النامية المعاصرة. وضرب صاحب الكتاب الجزائر مثلا على ما أورده في خصوص ظاهرة التخلف الثقافي ذلك أنه يوم استقلت الجزائر سنة 1962 من قبضة الاستعمار الفرنسي الذي مكث هناك منذ 1830، وجد المجتمع الجزائري نفسه متخلفا، ليس في الميدان الاقتصادي فقط، وإنما أيضا في الميدان الثقافي بالمعنى الوارد في هذه الفصل. وظاهرة التخلف الثقافي هذه، موجودة معالمها ومعطياتها ليس في الجزائر فقط، بل أيضا في كل من تونس والمغرب. والفرق الوحيد حسب الذوادي بين هذه المجتمعات هي درجة ضخامة وتفحل ظاهرة هذا النوع من التخلف، فالجزائر تأتي في الصدارة فيما يخص مدى عمق التشويه والتدهور اللذين طرآ على الزاد الثقافي الجزائري (الوطني) نتيجة الاستعمار الفرنسي واستغلاله المضعف لمكونات الزاد الثقافي الأصيل. ومن ملامح هذا التشويه الثقافي في المجتمعات الثلاثة (الجزائر دائما في الصدارة) هو المزج الشائع والمهول للجهات المحلية العربية بمفردات وعبارات فرنسية حتى يومنا هذا، وذلك بعد أكثر من أربعين سنة من الاستقلال. كما تبرز معالم هذا التخلف الثقافي في عدم (أو التكاسل في) استعمال اللغة العربية في كثير من مؤسسات القطاع الإداري خاصة القسم العصري منه. ولغة المستعمر مازالت هي المحبذة، وبالتالي السائدة في هاته المؤسسات الوطنية التي لا يرأسها ولا يسيرها إلا الجزائريون والتونسيون والمغاربة. والتنمية اللغوية في رأينا هي شرط أساسي في بعث وإرساء ثم بعث وإرساء ثم دفع حركة التنمية الثقافية واللغوية الشاملتين. وهنا أبرز محمود الذوادي أهمية التعريب في بلاد المغرب العربي الكبير. فصدق الانتماء وعدم التذبذب في الانتساب إلى الحضارة العربية الإسلامية، ليست أمورا تتحقق عن طريق المصادفة. فالملاحظات والدراسات الميدانية لظاهرة صلابة استمرارية الانتساب الثقافي واللغوي في مجتمعات اليوم تؤدي مدى أهمية اللغة والثقافة الوطنيتين في إرساء أسس المناعة للشهية القاعدية وثقافة المجتمع الأصلية.

فالمجتمعات المتقدمة حقا اليوم ليست هي التي لها العلم والتقنية والدخل الاقتصادي الهائل فقط وإنما هي أيضا تلم المجتمعات التي تأخذ فيها اللغة والثقافة الوطنيتان أولوية الاستعمال على أي لغة ثقافة أجنبيتين.

وفي مقابل نجاح الاستعمار الثقافي في تعزيز أسسه في مجتمعات المغرب العربي، لاحظ المفكر تقلص استعمال اللغة الوطنية في كل المؤسسات أو المعاهد. ولم يبق للعربية من مكان يعززها وينمي مقدرتها سوى جامع القيروانيين بفاس، وجامع الزيتونية بتونس، وجمعية العلماء الجزائريين المسلمين بالجزائر. وبذلك دخلت هذه المجتمعات مرحلة التخلف الثقافي الذي ما زالت تشكو وتنزف منه حتى يومنا هذا.

ونتيجة هذا الوضع الثقافي الجديد أي واقع التخلف الثقافي، يسجل محمود الذوادي بروز وتواصل على مسرح مجتمعات المغرب العربي الثلاثة ازدواجية إيديولوجية عمقت وتعمق أكثر في جرح التخلف الثقافي الذي بليت به أفراد وجماعات ومؤسسات هذه البلدان منذ مجيء فرنسا الاستعمارية. فمن جهة : أصبح ولا يزال ينظر إلى الفرنسية على أنها لغة الحضارة، لغة العلم، لغة الاقتصاد، لغة الدبلوماسية، لغة الإدارة العصرية، لغة التفاهم بين الأمم، وباختصار فإنها لغة العصر أو الحداثة. ومن ناحية أخرى، تنظر الأيديولوجيا الثانية والمنشورة بين كثير من مواطني هذه المجتمعات حتى الآن إلى اللغة العربية على أنها لغة الشعر ولغة القرآن : أي الدين وبذاك فهي لغة رجعية وتقليدية.وبعبارة أخرى فهي لا تصلح أن تكون لغة العصر الحديث.! أما ظاهرة فقدان التكامل الثقافي أو الازدواجية الثقافية المشار إليها، يرى صاحب الكتاب أنها تساعد على تفسير ظاهرة الغربة في أشكالها العديدة كظاهرة الغربة التي تسيطر على فريق تجاه الأخر والغربة الثقافية المجتمعة من أهمية في حركية المجتمعات تأخرا أو تقدما نجد تجاهلا كاملا لدى خبراء التنمية والتخلف المعاصرين لدور التكامل أو الانقسام الثقافي في عملية التنمية والتخلف في المجتمعات النامية.

ولكن هل هناك من خروج من الاستعمار الثقافي؟

عن هذا السؤال يجيب الدكتور محمود الذوادي ويقول بأن تجذير وتأصيل التنمية الثقافية لمجتمعات المغرب العربي لن يتم في القريب العاجل، مبينا ضرورة أن تأخذ الثقافة واللغة مكان الصدارة ومعنى ذلك أن تصبح اللغة العربية المستعملة بالكامل في كل ميادين هذه المجتمعات، إضافة إلى حملات التوعية الثقافية ودور أصحاب القرار السياسي في إعادة المكانة الطبيعية للغة الوطنية والثقافية العربية والإسلامية في مجتمعات المغرب العربي.