معجم سعودي لكلمات اندثرت أو كادت

محمد بن ناصر العبودي يتناول أكثر من 2000 مفردة مع حكايات تعطي صورة اجتماعية عن ظروفها

TT

يكاد يتفق الباحثون المتمرسون على أن العمل المعجمي من أصعب الأعمال العلمية إن لم يكن أصعبها على الإطلاق; لأنه ذو طبيعة شمولية تقوم على الاستقصاء في دائرة أقصى الممكن كما أنه يحتاج إلى أن يكون القائم به ذا فكر متوقد وممن يملك قدرات متميزة; ليتمكن من معالجة تلك الشمولية بواسطة أدوات البحث المتاحة بين يديه بطريقة آمنة ومثمرة في ذات الوقت. وربما يفسر هذا قلة الأعمال المعجمية عند استعراض قائمة إحصاءات الإنتاج العلمي البشري بروح المقارنة قياساً إلى غيرها من الأعمال التي تقذف بها المطابع يومياً، وتصبح أهمية العمل المعجمي أكبر وأشد ضرورة عندما تتعلق بتسجيل مادة كادت تنقرض أو قد انقرضت من التداول وأصبحت مجرد ذكريات تسكن في الصدور، كما أن هذه الصعوبة قد تفسر إلى حد «ما» سر اقتصار التأليف المعجمي على فئة من الضالعين في كل فن من فنون العلم. وربما أصبح هذا التأليف في كثير من الأحيان من مهمات البيوتات والمؤسسات العلمية ذات الكوادر الخبيرة والمؤهلة القادرة على إثراء العمل المعجمي والموسوعي وهذا هو مايمكن أن نصف به الكتاب الذي بين أيدينا وهو كتاب كلمات قضت ـ معجم بألفاظ اختفت من لغتنا الدارجة أو كادت ـ تأليف محمد بن ناصر العبودي، الذي نشرته دارة الملك عبد العزيز بالرياض في مجلدين. وهو ـ في جانب آخر - يربط بين جيلين في مجال اللغويات السائدة والبائدة ويقوم بشرح معاني عدد من الكلمات التي أصبحت في الجيل التالي غير مفهومة بدون هذا الشرح، يضاف إلى ذلك ما فيه من استشهادات بمسميات وأبيات شعرية قديمة وحديثة فصيحة وعامية، وما تضمنه من حكايات يمكن أن تعطي صورة اجتماعية واضحة عن أزمنة وظروف مختلفة تعين الدارسين المتخصصين على تحديد المعالم الدينية والاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية لتلك المجتمعات فالكلمات التي يتداولها المجتمع المحلي في زمن سابق للدلالة على استخراج الماء من الآبار بواسطة الحيوانات أو للدلالة على أدوات الحرث والري والحصاد وتربية الماشية أو للتعريف بأنواع الطعام وطريقة خزنه أو للرمز إلى الحاكم والمسؤول المحلي وأدوات الحرب والعراك وما إلى ذلك من كلمات تعبر عن واقع معين كلها يمكن أن تلقي ضوءاً واضحاً تتبين من خلاله طبيعة ذلك المجتمع وطبيعة معاشه وطبيعة علاقاته مع بعضه ومع غيره، والفائدة من هذا المعجم متاحة للجميع دون استثناء فعلاوة على أهميته للمتخصصين في اللغويات، فإن المتخصص في علم الزراعة أو في علم الأدوية مثلاً قد يجد أسماء لنباتات كانت موجودة في وقت لاستخدامات دوائية أو زراعية ثم انقرضت،كما سيجد الباحث الاجتماعي حتماً في معاني كلمات الألعاب الترفيهية مثلاً السائدة في تلك الحقبة مادة ثرية لدراسة درجة التكيف الاجتماعي آنذاك، وهكذا في مجالات أخرى يمكن أن تثريها كلمات ذلك المعجم أو أن تفتح لها آفاقاً أعمق لدراسة العنصر البشري أو المكاني أو الزماني في المجتمع الذي يحكي ذلك المعجم كلماته التي قضت وانقرضت. يضاف إلى ذلك أن جانب اللغويات التي تكاد أن تنقرض أو انقرضت ظل مقصوراً على اجتهادات المستشرقين في كثير من الأحيان مما جعل مسار الأهداف المتوخاة من دراسة هذه اللغويات ينحرف أحياناً بل كثيراً عن الآمال الوطنية المخلصة ومما يحضرني من تلك الدراسات على سبيل المثال «أصول اللغة العربية العامية والفصحى» ألفه الفرنسي «دي سفاري» سنة 1784، وقد نشرالكتاب بعد موت مؤلفه وعهد بنشره وتنقيحه إلى ميخائيل الصباغ أحد مدرسي العامية في فرنسا، و«أمثال المكيين» ألفه الهولندي «سنوك هورونجيه» و«بحث في لغة نجد الحالية» كتبه الفرنسي «جان هيس» عام 1912، و«الكلام الدارج بمصر القاهرة» بحث قدم لمؤتمر لندن عام 1892، و«لغة الجزائر العامية» ألفه «هوداس»،و«العربية ولهجاتها» ألفه السويدي «الكونت دى لاندبرج» وقدمه للمؤتمر الدولى في الجزائرعام 1906، و«مباحث عامية» ألفه الإيطالي «جيوسب فورلاني»، و«قواعد في اللغة العامية المصرية» ألَّفه الأمريكي «فسك»، و«في النصوص العربية والأعجمية في مدينة العرائش» ألفه الأسباني « مكسيميليانو أغوسطين» ونشره عام 1910، و«مواد لدرس لهجة عرب البدو في افريقية المتوغلة» ألفه الألماني «جورج كمبفماير» ونشره فى برلين عام 1889، و«لهجة قبائل اليمن وما جاورها من جنوب الجزيرة العربية» لـ«جورج كمبفماير» أيضاً، و«ثلاث مقالات في اللهجات العامية» أَلَّفه الألماني الدكتور«فيشر» ونشره عام 1898، و«معجم اللهجة المغربية العامية» ألفه الفرنسي «بوسييه»، و«لهجة عرب هوارة » ألفه الألماني «هنس ستومة» مع أستاذه «ألبرت سوسين»، و«أشعار البدو بين قطري تونس وطرابلس الغرب» للمؤلف نفسه ونشر سنة 1895م بعنايةالإيطالي «ناللينو»، و«مجموعة عن الأدب الشعبي العراقي «نشرها الألماني» إدوار ساخو «في عام 1889، و«حكايات من العراق» للألماني «بروثومايستر» عام 1902، و«دراسة فى فنون العراق» للألماني «فرانزها يتريش فايساخ» ونشر عام 1930.

أعود لكتاب كلمات قضت لأشير إلى أن مما أضفى عليه أهمية علمية ورونقاً ثقافياً جذاباً أنه يرجع كثيراً من الألفاظ الدارجة إلى أصولها العربية بما يملكه مؤلفه من زاد علمي وفير وخبرة عملية واسعة ولاسيما أنه كان شاهداً على كثير من تلك الألفاظ التي تضمنها معجمه بالممارسة والمعايشة، وقد أوضح العبودي أن الكلمات المتداولة في أي مجتمع ليست كالإنسان يمكن أن تموت موت الفجأة، ذلك أن موتها في هجران أهلها لها وهذا لايكون بين ساعة وأخرى وإنما تنشط ثم ترتخي وتمرض حتى تموت إذا عَدَت عليها عوادي الزمن وصرعتها الثقافات الجديدة المصحوبة بكلماتها المناسبة لها.

كتاب كلمات قضت جاء في أكثر من 1550 صفحة تناول فيه أكثر من 2000 مفردة من الكلمات الداخلة في تحديد موضوعه ونهج فيه مؤلفه منهج اللغوين في ترتيب مادة كتبهم حيث رتبه بحسب حروف المعجم وبالنظر إلى بنية الكلمة وتصريفها الأساس بدءاً بكلمة أبا حيث أورد أبا الحصين وهو اسم من أسماء الثعلب وانتهاءً بكلمة يهق وأورد فيها كلمة اليَهَق وهي عشبة صحراوية تنبت في الربيع ويسميها البعض الجرجير البري، وتميز بكثرة استشهاداته القديمة والحديثة شعراً ونثراً لتأكيد المعاني التي يوردها لكل كلمة مما أثرى مادته إثراء حقيقياً، كما أنه إتماماً للفائدة العلمية والبحثية من الكتاب أُدرِج في آخره فهرسان أحدهما للمحتويات والآخر للمراجع وكشافان أحدهما للأعلام والآخر للأماكن مما أتاح للباحث عملية الوصول إلى الكلمة التي يريد الوصول إليها بيسر وسهولة. كاتب سعودي.

[email protected]