ثقافة الخنوع

فاضل السلطاني

TT

«إنه الخوف يا صاحبي»، يقول دميان في رواية الألماني هرمان هسه الموسومة بالاسم نفسه، والتي ترجمها إلى العربية الشاعر السوري ممدوح عدوان. ولكن من أين ينبع الخوف؟ يخاف الناس حين لا يكونون منسجمين مع أنفسهم. والناس خائفون لأنه لم يسبق لهم السيطرة على أنفسهم. مجتمع بأكمله مؤلف من أناس خائفين من المجهول الذي فيهم. وكلهم يحسون أن الأسس التي يعيشون وفقها لم تعد صالحة، وإنهم يعيشون وفق قوانين بالية.

إنها أوروبا الخائفة في منعطفات القرن العشرين الكبرى، الخارجة من حريق الحرب، المسودة بدخان المعامل، التي تعرف كم غراماً تحتاج من البارود لقتل إنسان. «حالة ميئوس منها».. يصرخ المثقف الرائي دميان في وجه صديقه سنكلير الباحث الأبدي عن سعادة البشر، «فهؤلاء الناس الذين يحتشدون معاً بدافع الخوف مليئون بالذعر والكراهية، وما من واحد منهم يثق بالآخر. إنهم يتطلعون إلى المثل التي لم تعد مثلاً. ولكنهم سيطاردون حتى الموت من يطرح مثلاً جديدة. أكاد أحس منذ الآن الصراع المقبل. صدقني إنه قادم، وسريعاً جدا». أية نبوءة رهيبة ستتحقق بعد حوالي عقدين على يد رجل استطاع أن يحول الخوف إلى قيمة اجتماعية عامة، وإلى سمة أخلاقية استبطنت النفوس، وبدت وكأنها نبتة طبيعية فيها، أو كأنها غريزة. ظهور هتلر. كتبت هذه الرواية عام 1919، أي بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الأولى، لكننا لا نعثر على أثر من أسطر قليلة فيها عن هذا الحدث الذي قلب القرن العشرين، والذي كانت فيه «المشاعر البدائية، بل حتى المشاعر الأكثر وحشية، غير موجهة للعدو، بل كانت المهمة الدموية مجرد فيض من روح، الروح المنقسمة على نفسها، والتي تملأ أعطافهم بشهوة النقمة والقتل، والإبادة والموت، علهم يولدون من جديد». كان ما يشغل هسه شيء آخر: ما الذي قاد، وليس من قاد، هذه الجموع البشرية لطحن بعضها البعض كما لم تفعل الحيوانات الجريحة؟ إنها سيكولوجية الخوف الذي يولد الكراهية والذعر من النفس والآخرين.

وقبل هسه بأربع سنوات، حذر الألماني العظيم الآخر هاينرش مان، من هذا الخوف في روايته ـ النبوءة: الخَنوع.

وإذا كان هسه، قد حفر في أعماق الذات، ليكشف لنا عن هذه البذرة اللعينة، عاد مان إلى التاريخ الألماني ليستخرج الجذور. وفي الحالتين يتوصل الروائيان للنتيجة ذاتها: نحن، الخانعين، مسؤولون عن ذلك. مسؤولون عن الحروب، وعن توليد الطغاة الذين يولدون الحروب. نحن الخائفون حتى من ظلالنا، مسؤولون عن قمعنا المقيم. نحن القطيع القابل للاستخدام المؤقت، الجاهز للفظ بعد انتهاء الصلاحية.

إنها قصة خنوعنا في كل زمان ومكان. لا ديكتاتور بدون قطيع، ولا قطيع بدون خنوع، هذا الخنوع الذي يصبح مع الزمن، كما تشخص بصواب ليلى نعيم في تقديمها لترجمة رواية (الخنوع): «شخصية اجتماعية ليست متفردة أو خارجة تركيبتها عن المألوف، بل هي وكما حددها أريك فروم، شخصية تحمل في داخلها صورة كاملة لنظم مجتمع ومسلكيته، شخصية تجسد في أخلاقيتها نظماً اجتماعية موجودة، وسلطة تسعى لتثبيت هذه في نفوس الافراد..».

لكن في كل قطيع شياه ضالة. إنهم هؤلاء «الذين يحملون العلامة»، كما يقول دميان، «الوحيدون الذين يستفزون طمأنينة الجميع الكاذبة، ولذلك هم ملعونون، شواذ، ضالون، ومجانين خطرون». ومع ذلك، هم الذين يحملون التاريخ دائماً على أعناقهم الممدودة استعداداً للصلب، ويتقدمون به خارج مراعي القطيع، وعلى مرأى الديكتاتور وسيافه، مرددين مع كازانتزاكي صرخته الشهيره: «أنا لا أخاف، إذن أنا إنسان حر».