هل تستغني الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروبيين؟

3 تيارات في الإدارة الأميركية يجمعها قاسم مشترك واحد هو الاقتناع بالتفوق العسكري والاستراتيجي على دول العالم

TT

قدم للكتاب عميد الخبراء الاستراتيجيين الفرنسيين حاليا: بيير هاسنر وكان مما قاله هذا الكلام المدهش والمفاجئ: ربما كان المؤلف هو أهم باحث فرنسي فيما يخص المعرفة الدقيقة بالعلاقات الدولية عموما والاميركية خصوصا، وعلى اية حال فإنني اعترف مع استاذه في هارفارد «ستانلي هوفمان» بأننا لم نقرأ ربع المؤلفات الاكاديمية والاختصاصية التي قرأها واستوعبها جان ايف هين.

وهذا ما دفعني الى القراءة بدوري وبنوع من الحماسة. ولم يخب ظني فقد وجدت في الكتاب تحليلات مضيئة وبخاصة فيما يتعلق بالمسألة التي تشغل العالم حاليا: واقصد بها الادارة الاميركية الحالية وتركيبتها الآيديولوجية ومدى تأثيرها على مستقبل العالم.

وهذا ما يجده القارئ في الفصل الاخير من الكتاب: حلف الاطلسي و (11) سبتمبر، ثم بشكل اخص في الفقرة التي تحمل العنوان التالي: «رجال الرئيس». فهنا يقدم المؤلف تحليلا قويا عن التيارات الاساسية المتنافسة داخل ادارة جورج دبليو بوش، وكيف تحاول ان توجه السياسة الخارجية الاميركية في هذا الاتجاه أو ذاك. يقول المؤلف بما معناه: ان فريق بوش مشكل من ثلاثة تيارات تمثل الاتجاه العريض للمحافظين الاميركيين. التيار الاول يمكن ان ندعوه بالتيار القومي الذي يمثل العصبية الاميركية أو العنجهية الاميركية. وهو يتجسد اساسا في شخصيتين كبيرتين: نائب الرئيس ديك تشيني الذي يبدو حذرا كتوما، ولكن صوته مسموع ونافذ، ثم دونالد رامسفيلد المشهور بصراحته وتصريحاته الصاخبة.

وهذان الرجلان عاشا فترة الحرب الباردة وشهدا سقوط الامبراطورية السوفييتية ويمتلكان بالتالي بعض القناعات الراسخة المستمدة من تجربتهما الشخصية هذه. فهما يعتقدان بأن القوة الضاربة للولايات المتحدة هي التي أدت الى الانتصار في الحرب الباردة ولا شيء سواها. فإذا كانت موسكو قد انحنت امام واشنطن او ركعت فليس ذلك حبا بالسلام أو المثل العليا، وانما لأن اميركا كانت الاقوى اقتصاديا ثم بالاخص عسكريا. وبالتالي فكفانا مثاليات وكلام معسول على طريقة ودرو ويلسون وجيمي كارتر او سواهما من ممثلي التيار الاخلاقي في السياسة الاميركية.

وحده رولاند ريغان عرف كيف يخضع الاتحاد السوفييتي عن طريق الانخراط في برنامج حرب النجوم الذي لم تستطع موسكو مواجهته فألقت سلاحها واستسلمت. ثم يستنتج تشيني ورامسفيلد وغيرهما من ممثلي التيار القومي المتشدد الحقيقة التالية: وهي ان القوة العسكرية ينبغي ان تكون العامل الحاسم في العلاقات الدولية. فمن لا يمتلك القوة لا سياسة خارجية له، ولا كلام مسموعا له بين الأمم، وبدونها لا معنى للديبلوماسية.

أما المجموعة الثانية التي تشكل فريق عمل الرئيس بوش فهي ما ندعوه بالمحافظين الجدد. والكثيرون يرون ان التسمية خاطئة وتدل على عكسها. فالواقع انهم «ثوريون» فيما يخص بعض النقاط وبخاصة السياسة الخارجية. والفرق بينهم وبين المجموعة الاولى هو انهم اصحاب آيديولوجيا سياسية بل وفلسفية واضحة. ويمثلهم نائب وزير الدفاع بول ولفويتز ومساعده دوغلاس فيث وحتما ريتشارد بيرل وبعض الآخرين. وهؤلاء يتفقون مع المجموعة الاولى على ان القوة العسكرية هي الاساس ولكن يضيفون قائلين: ينبغي ان توضع في خدمة مشروع آيديولوجي طويل عريض. وهو المشروع الذي يتلخص بعبارة واحدة: نشر الديمقراطية في شتى انحاء العالم عن طريق محاربة التعصب الديني والطغيان السياسي. وهم ينطلقون من المبدأ الاساسي التالي: لا يمكن ان يتحقق لاميركا الأمان إلا اذا صاغت المسرح العالمي على شاكلتها. عندما يتحقق هذا الهدف سوف يصبح أمن اميركا مضمونا ولن يعود مهددا من قبل أحد. وهم يريدون توسيع نطاق «امبراطورية الحرية» لكي تشمل العالم. وهذا المصطلح من اختراع توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للأمة الاميركية (1743 ـ 1826). ومعلوم انه كان المبلور الرئيسي لوثيقة الاستقلال والرئيس الثالث للولايات المتحدة (1801 ـ 1809). ولكن الشيء الذي يضيفه المحافظون الجدد أو بالاحرى الثوريون الجدد لانهم يريدون تغيير العالم والمحافظة عليه هو التالي: ينبغي توسيع حدود امبراطورية الحرية حتى ولو عن طريق السلاح اذا لزم الأمر. بمعنى آخر: لا نستطيع ان ننتظر مئات السنين لكي تنتشر الديمقراطية في العالم بشكل عفوي ومن تلقاء ذاتها. وانما ينبغي ان نسرّع العملية، ان نحرّكها. من هنا الطابع الثوري، بل والانقلابي، لمن يسمونهم خطأ: بالمحافظين الجدد! والواقع انهم يستلهمون ايضا خط الرئيس الاميركي الكبير وبالتالي ودرو ويلسون صاحب المبادئ الاربعة عشر الشهيرة الداعية الى حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولكن مع فارق واحد هو ان المثالية وحدها لا تكفي وانما ينبغي ان نسلّحها بالقوة لكي تكون فعالة وقادرة على الانتصار. ومعلوم ان الرئيس ويلسون الذي وصل الى سدة الرئاسة عام (1913) كان يمثل التيار المثالي الطيب في السياسة الخارجية الاميركية. وهو التيار المضاد للتيار الواقعي حتى درجة الوقاحة والذي يشكل الوجه الآخر لهذه السياسة على مدار التاريخ. وقد تجسد في شخصيات عديدة من أهمها نيكسون وكيسنغر وبوش الأب... الخ. كان ويلسون يمثل افضل ما اعطته اميركا في تاريخها من حيث حبه للحرية والكرامة الانسانية داخل اميركا وخارجها. ومعلوم انه حظي بشعبية واسعة في العالم العربي بعد ان اعلن مبادئه الشهيرة لمصلحة الشعوب المستضعفة في وقت كنا نرزح فيه تحت نير الاستعمار الفرنسي والانجليزي. ومبادئه هي التي أدت الى تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الاولى مباشرة، ثم الأمم المتحدة لاحقا، فلأول مرة في التاريخ يظهر شخص يفكر بالعلاقات الدولية على اساس القانون والمبادئ الاخلاقية، وليس على أساس القوة أو موازين القوى والبطش. لأول مرة تنهض شخصية سياسية لكي تدعو الى تشكيل نظام عالمي جديد على اساس مبادئ القانون الدولي وليس على اساس هيمنة القوي على الضعيف كما يحصل لدى الوحوش في الغابة. ولا غرو في ذلك فويلسون كان متأثرا جدا بفلسفة التنوير ويعتبر نفسه تلميذا للفيلسوف الالماني الشهير ايمانويل كانط الداعي الى استتباب السلام الأبدي بين الأمم عن طريق تحضير الشعوب أو ادخالها التدريجي في الحضارة واخراجها من مرحلة الهمجية والبربرية.

ولكن المشكلة هي ان المحافظين الجدد انحرفوا عن خط ويلسون في نقطة واحدة: ألا وهي مشروعية استخدام القوة لنشر النظام الديمقراطي الحر في العالم، ثم يضيف المؤلف قائلا: في الواقع انهم فكروا في قلب نظام صدام حسين قبل (11) سبتمبر بوقت طويل، فبول ولفويتز وهو كان يساريا ديمقراطيا قبل ان ينضم الى الجمهوريين، حاول اقناع بيل كلينتون باسقاط النظام العراقي، ولكن دون جدوى.

ولكن بعد ان حصلت ضربة (11) سبتمبر اصبحت افكارهم مقبولة لدى الادارة ولم تعد تتهمها بالتهور أو المغامرة. وقد استغلوا هذه الضربة لتنفيذ مشروع اكبر بكثير من مجرد محاربة الارهاب. لقد ارادوا رسم خارطة الشرق الاوسط بشكل جديد عن طريق ادخاله في الديمقراطية. ولكن الخطأ الذي وقعوا فيه هو انهم كانوا متفائلين اكثر من اللزوم. فالعراق ليس المانيا ولا اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان كانت قد شهدت التنوير على يد سلالة الميجي منذ عام 1868، والمانيا كانت اعظم أمة اوروبية من حيث الحضارة والتقدم قبل ان تبتلى بهذا الشخص العصابي والمجرم: هتلر. المانيا هي بلد أعظم فلسفة ظهرت على سطح الارض: الفلسفة المثالية الالمانية. وهي بلد جمهورية «فايمار» التي مارست الحكم الديمقراطي والدستوري لسنوات طويلة قبل صعود النازية لأسباب عديدة.

كان الرئيس ويلسون يعتقد ان نشر الحرية والديمقراطية وحكم القانون في العالم ينبغي ان يحظى بموافقة الأمم المعنية ورضاها، وينبغي ان يعتمد على المشروعية الدولية والرأي العام المحلي والعالمي. بمعنى انه سوف يكون حصيلة صيرورة طويلة وليس عبارة عن عملية ارتجالية قائمة على القوة فقط. فالقوة قادرة على كل شيء ما عدا تغيير عقليات الناس بسرعة أو اجبارهم على شيء لا يعرفونه.. واذا ما اجبرتهم عليه فإنهم قد يرفضونه حتى لو رغبوا فيه وكان لصالحهم.

اما المحافظون الجدد، وبخاصة ريتشارد بيرل، فقد احتقروا المؤسسات الدولية وفي طليعتها الأمم المتحدة، بل واحتقروا حتى القانون الدولي باعتبار ان القوة الضاربة وحدها تكفي. ولكن يبدو انهم ابتدأوا يتراجعون الآن عن صلفهم وغرورهم ويقبلون بدور ما للأمم المتحدة وربما لحلف الاطلسي واوروبا لاحقا. فالواقع ان هذه القوى اذا ما انضافت الى قوة اميركا سوف تمنح مشروعية اكبر على تدخلها وسوف تؤدي الى انتصار هذا التدخل بالمعنى الكامل للكلمة. فإذا ما وضعت الأمم المتحدة ثقلها في الميزان، واذا ما وضع حلف الاطلسي ثقله وكذلك المانيا وفرنسا، فإن الوضع سوف يستتب في العراق عاجلا أو آجلا. وكل شيء يتوقف على قرار بوش: هل يقبل بالتخلي ولو قليلا عن الاستفراد بشؤون العراق والعالم؟ هل يقبل بمشاركة القوى الأخرى التي ذكرناها له؟ هذا ما يأمله العاقلون ويرجونه.

لكن هناك سؤالا لم اطرحه حتى الآن: لماذا يريد «المحافظون الجدد» نشر الديمقراطية في العالم؟ لانهم يعتقدون ان ضربة (11) سبتمبر ما كانت ممكنة لو ان العالم العربي والاسلامي محكوم ديمقراطيا وتسوده النزعة الانسانية وفلسفة حقوق الانسان والتسامح الديني. فالانظمة الطغيانية القائمة على القمع الفكري والتعصب الاصولي هي التي تشكل مرتعا خصبا لنمو حركات التطرف والفهم الظلامي للدين، وهي التي تفرّخ الجماعات الارهابية تفريخا. وبالتالي فإن لاميركا مصلحة مباشرة في نشر الديمقراطية وليس فقط من أجل الآخرين. هناك مجموعة ثالثة في الادارة الاميركية لم نتحدث عنها حتى الآن. وهي تلك التي يتزعمها كولين باول وزير الخارجية. وهذا الاتجاه يمثل السياسة الاميركية التقليدية لأن باول كان دائما يعرّف نفسه على اساس انه جمهوري معتدل. وقد عبَّر اكثر من مرة عن تحفظه على استخدام القوة وقال: ينبغي ان نستنفد كل الوسائل الديبلوماسية قبل اللجوء الى السلاح كحل أخير.

وكل همه يكمن في تشكيل تحالف دولي واسع ضد الارهاب العالمي وليس استفراد اميركا وحدها بالمبادرات والقرارات. ولكن دونالد رامسفيلد كان يتصدى في كل مرة. في الواقع ان باول يمثل تيار الواقعية الحذرة للديبلوماسية الاميركية. وكان دائما يفضل التسويات البراغماتية على المصادمات الآيديولوجية مع الآخرين. من هنا اختلافه الشديد مع المحافظين الجدد الذين ترتفع الحرارة الآيديولوجية لديهم الى درجة عالية. باول يفضل التطور التدريجي للأمور على الثورات المباغتة. وهو الذي اقنع بوش بضرورة المرور بالأمم المتحدة قبل الذهاب الى العراق. ولكن في كل مرة كان يُطوَّق من قبل رامسفيلد والبنتاغون. والواقع ان التوتر بين الرجلين ما انفك يتصاعد، ويبدو ان بوش ليس غضباناً من ذلك، بل ربما كان هو الذي يشجعه لكي يكون الحكم الاعلى في كل شيء. أو قل لكي يعرف الى اي مدى يمكنه ان يذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. فمن الواضح انه الحكم الاعلى وصاحب الكلمة الأخيرة.

ولكن على الرغم من كل هذه الخلافات بين المجموعات الثلاث التي تحيط ببوش الا انها تتفق على قاسم مشترك اعظم هو التالي: كلها مقتنعة بالتفوق الاميركي الساحق على بقية دول العالم كبيرها والصغير. وكلها تضع ثقتها في القوات المسلحة الاميركية التي هي وحدها القادرة على الرد على ضربة (11) سبتمبر. وكلها ترفض السياسة الخارجية الليبرالية والمتساهلة لبيل كلينتون.

لكن يبقى السؤال مطروحا: هل اميركا بحاجة الى حلفائها الاوروبيين ام انها تستطيع ان تستغني عنهم؟ في رأي المؤلف ان بوش الذي احدث «ثورة» لا سابق لها في تاريخ السياسة الاميركية قد لا يستطيع الاستمرار في هذا الخط الى الأبد. فالقوة الاميركية على الرغم من عظمتها وجبروتها كشفت مؤخرا عن محدوديتها أو التخوم التي لا يمكن ان تتجاوزها. وبالتالي فإن اوروبا وحلف الاطلسي ضروريان بالنسبة لها لكي تنجح في العراق والمنطقة بأسرها، لكن المفكر الاستراتيجي بيير هاسنر الذي قدَّم للكتاب كما قلنا يعتبر ان المؤلف متفائل اكثر من اللزوم، فقد تنجح هذه الاحتمالية وقد تنجح احتمالية أخرى. وهي ان تستمر اميركا في ركوب رأسها والاستفراد في شؤون العالم بشكل امبراطوري وقد تغطس اوروبا في النزعة العقيمة بمعاداة اميركا. والله اعلم.

* هل الولايات المتحدة بحاجة الى حلفاء؟

Les Etats - Unis ont - ils besoin d"allies?

* المؤلف: جان ايف هين Jean - Yves Haine

* الناشر: بايو، باريس Payot. PARiS