معيقات وأوهام أنجبت الإفراط

تركي الحمد في كتابه الجديد: إمكانية النهضة العربية ما زالت قائمة لكنها تحتاج إلى تخريج رؤية لمرجعية نظرية

TT

يبتعد تركي الحمد في كتابه الجديد «من هنا يبدأ التغيير»، الصادر عن «دار الساقي» في بيروت، مسافة أخرى عن حركته الروائية الجديرة بالحب، ليواصل كتابة المقالة الثقافية، والتحليل السياسي. يحرث بقلمه في الموضوعات الأساسية، أي المفاهيم المؤسسة، التي لا تزال مائعة في ثقافتنا، في حين كان، ويظل المطلوب والملحّ تحديدها تحديداً صارماً، كمقدمة لا بد منها في سبيل التغيير.

في مقدمة وخمسة فصول، يشرح المؤلف أسباب وعوامل التقهقر، والتأثيرات السلبية التي ألمت بالعرب، وجعلت الفكر العربي أسير لغة خشبية، وأفكار بليدة، تخضع لذهنية المؤامرة، ففقدت حركيتها في الجمود الفكري، والإجابات الجاهزة.

يرى المؤلف أن أسباب أزمة النهوض العربي تكمن بالخروج على مبدأ الوسطية، لأن الفضيلة هي عبارة عن وسط بين نقيصتين، فبين الجبن والتهور تقع الشجاعة، وبين البخل والتبذير يقع الكرم، وبين الديكتاتورية والفوضى يقع الاستقرار. ويخلص إلى أن الحضارة الدارسة، أو الدولة المنهارة، لا بدّ من أن تكون قد أخلّت بهذا المبدأ، وأفرطت أو فرّطت به. لكنه رغم ذلك يرى أن إمكانية النهضة لا زالت قائمة، لكنها تحتاج إلى تخريج رؤية لمرجعية نظرية، لأنَّه لا فعل من دون أساس نظري. وهذه المرجعية قادرة على منح الخيارات شرط أن لا نكون أسرى لها بقدر ما نكون من المتفاعلين معها.

يحدد المؤلف الإشكاليات التي تعيق التطور فيرى أنَّها تبدأ بالخطاب الحداثي العربي الذي أدمن التوفيق بين النقائض محاولاً أن يجد لنفسه مشروعية من خلال الاستعانة بالماضي، فكانت النتيجة حداثة سلفية أو سلفية حداثية. كما تكمن بالعصبيات التي تتحكم في السلوك العربي، لكنه يرى أن القضاء على العصبيات مسألة مشكوك فيها، وفي تقديره أن ذلك ليس مهماً، بل المهم تنظيم العلاقة بينها في إطار المجتمع الواحد. كما يرى أن الخوف أحد معوقات النهوض، لأن السلوك العربي يعاني من الخوف المرضي من كل شيء وأي شيء. فالفرد العربي يولد والخوف يلفَّه من كل جانب، وينشأ على التحذير والعقاب والعيب. وعلاج الخوف لا يكون إلاّ بالتعامل الإيجابي مع قضايا العصر ومشكلاته، والانفتاح على الآخر وليس العداء المجرد والرفض القاطع. ومن العلل المعطلة أيضاً تعطيل دور المرأة بحجة اختلاف الوظائف البيولوجية، في حين أن التكامل الوظيفي هو الذي يرعى العلاقة بين جناحي الإنسان. ويرى أن أوهاماً تقف في طريق العقل العربي تعطله وتجعله سجين أطر معينة. هذه الأوهام هي أوهام سيادة الأنا، وفكر المؤامرة التي هي تفسير بسيط للإخفاقات الموضوعية. وأوهام السلطة، وتصوير الحصول عليها كمقدمة لنهوض الأمة. وأوهام الفرادة والتميز، بتجاهل العموميات التي تشترك بها الجماعات الإنسانية من حيث هي جماعات إنسانية. والوهم الأخير هو الزعامة، وتصوير القضاء على الأعداء، وتحقيق التقدم مرتبط بزعيم فرد يأتي من بطن الغيب ليحقق المعجزات.

هذه المعيقات والأوهام شكّلت بمجموعها أزمة رئيسة هي أزمة الإفراط في المعنى، أي التطرف، ممَّا أضاع المعنى نفسه. فأسرفنا في فهم الحضارة الغربية كحضارة مادية فقط، وفاخرنا بأنفسنا كموضع وحيد للروح حتى أصبحت الروح كيانا يشل الجسد، كما أن الجسد أصبح كياناً يشل الروح هناك، وكلا الأمرين أدّيا في النهاية إلى المعنى نفسه، وهو اللامعنى.

كما يخصص المؤلف مقالة لمناقشة الإرهاب، فيحدده بأنَّه العنف من أجل العنف، وبذلك فإن العنف السياسي الموجَّه نحو هدف واضح ومقبول على مستوى مجتمعي، لا يدخل في باب الإرهاب. ويرى أن هناك شعرة دقيقة تفصل ما بين العنف بصفته وسيلة سياسية مشروعة، وبين العنف بصفته عملاً إرهابياً تحول إلى غاية. ويقول أن ثمة ثلاثة أركان تفرّق في موضوع العنف هي: مشروعية الغاية، وانتفاء الوسائل الأخرى لتحقيق الغاية، وإمكانية تحقيق الغاية. بعد هذا العرض لأسباب تقهقر السياسة العربية يرى أن التغيير يبدأ بالانتقال من خطاب الثورة إلى ثورة في الخطاب. لأن مشكلة المشكلات في الخطاب الثوري العربي كانت في انعدام الرؤية الفكرية لما يجب أن تكون عليه الحال، وكيف يمكن الوصول إلى الحال المأمول. المقصود بانعدام الرؤية الفكرية انتفاء وجود فلسفة اجتماعية بعيدة المدى قادرة على إحداث تحول فكري اجتماعي قبل إحداث تحول اجتماعي مادي. فالتغيير والتقدم والنهضة، لا يمكن أن تتم دون رؤية ترتب العلاقة بين الفرد والمجتمع والسلطة والعالم من حوله. الثورة في الخطاب، للخروج من دائرة التخلف والجمود، تحتاج إلى ثورات ثلاث في مناحي المجتمع: ثورة في التعليم، وثورة في القانون، وثورة في الثقافة.

ثورة في التعليم تؤطر العملية التربوية والتعليمية. لأن التعليم، يشكّل في النهاية العقل والسلوك القائم على ذلك العقل، ومن ثمّ طبيعة المجتمع وشكله ورؤاه إلى ذاته ومن حوله. الخطاب التعليمي الجديد يجب أن يعتمد على الدراسات المستفيضة وليس على التأملات المجردة، وأن توطر تفصيلاته بجناحي الحركة الاجتماعية وهما الفرد والجماعة.

ثورة في القانون، لأنَّه عندما ينتفي القانون يتحول كل شيء إلى مباح وإلى ممنوع معاً، وهذا هو العماء. فالقانون هو الذي يعيد الروح إلى الجماعة، وسيادته ينتج عنها الأمن والحرية والولاء في الوقت نفسه. ثورة في الثقافة، لأن الثقافة هي الوعي الذي هو التمثل الذهني للأشياء والموجودات، وفي التحليل الأخير المورد الرئيسي لسلوك الإنسان وردود أفعاله واستجاباته. والمثقف هو أحد مصادر تكوّن الذهن وتشكّل العقل، ومن ثمّ نشوء وعي معين وسلوك محدد.

من فضائل هذا الكتاب أنَّه يعتمد النقاش أسلوباً، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يعترف بأنَّه لا يملك طريقاً ليهديه لأمّته، لكنه يحاول أن يتلمس بداية طريق، كي يتاح لهذه الأمة أن تشارك في صناعة مستقبل البشرية، لا أن تبقى شاهد زور يتجاوزه الزمن إن لم يرده.

* من هنا يبدأ التغيير

* المؤلف: تركي الحمد

* الناشر: دار الساقي ـ بيروت