رؤية الغرب الراهنة للعالم العربي نتيجة لأحكام غير موثقة من القرن التاسع عشر

غرائبية الملل والنحل والأعراق في كتابات المستشرقين الإسبان خلال رحلاتهم إلى البلدان العربية

TT

تحظى مسألة «الطابع الإسلامي» باهتمام كبير لدى الباحثين الغربيين المتخصصين في العالم العربي. يكفي الاطلاع على الأبحاث والدراسات السياسية السائدة في أوروبا والولايات المتحدة لنتأكد أن طبيعة العلاقة بين الحضارة الغربية المسيحية والحضارة الشرقية الإسلامية صارت تتضمن جوانب جدلية بل صدامية تنذر، أو هكذا يقول البعض، بمواجهة حاسمة. ويتبين من دون جهد جاهد أنّ الموقف العدائي الملازم لشريحة واسعة من المجتمع الغربي يستمد شرعيته المزعومة من مقومات ثقافية تضرب جذورها في أزمنة تعود إلى منشأ الكيانات الوطنية الأوروبية التي أحكمت، مع مرور الزمن، سيطرتها على معظم أنحاء العالم. وتقف عناصر متعددة وراء الرؤية الغربية العامة للعالمين العربي والإسلامي، ولا ينبغي تبسيط القضية وتسفيهها إلى درجة الاعتقاد بأن ما يسعى البعض إلى اعتباره «تعارضا هيكليا» بين قيم الحضارة الغربية المسيحية و«نقيضها» الحضارة الشرقية الإسلامية يتأسس على قواعد فكرية وعقائدية بحتة. فالعداء السافر واللا متناهي أحيانا، الذي اتسمت به الجهات الدراسية والثقافية الأوروبية والأميركية، له إرهاصات سياسية مؤدلجة. وهدفنا هنا التطرق إلى أحد جوانب ما يمكن تسميته «عقلية الرفضية الغربية» إزاء الحضارة الإسلامية علما بأننا نحسب القرن التاسع عشر المنبع الرئيسي لعقلية الرفضية هذه، وذلك لأن رؤية الغرب الراهنة للعالم العربي مدينة بشكل من الأشكال لأحكام وأوصاف صدرت عن حركة الاستشراق التي ازدهرت إبان القرن التاسع عشر. فبالإضافة إلى كتابات المستشرقين شاركت جملة من التقارير والمذكرات خلفها زائرو البلاد العربية في تحديد موقف غربي محدد من الحضارة العربية. وساعدت كتابات الرحالة الأوروبيين في ترسيخ «الأساطير المؤسسة» للحضارة الإسلامية. الواقع أن يوميات رحالة القرن الـ19 تحولت إلى مرجعية لا غنى عنها لدى فئة من الدارسين الغربيين صادفت فيها ما يعزز مواقفها. وبالمقابل اعتمد الرحالة أنفسهم على نظريات هؤلاء الدارسين المنضوين تحت لواء الفيلق الاستشراقي وبذلوا جهدهم من أجل إثبات استنباطات هؤلاء والتطابق بين ما شاهدوه وما سبق أن طالعوه في أبحاثهم. لذلك، تعكس كتابات السفر إلى المشرق العربي أصداء التيار الاستشراقي الذي لم يخف قط انبهاره «بفسيفساء المجتمعات الشرقية» المتعددة الأديان والأعراق. وتحولت هذه المسألة الشرقية إلى عامل روائي لم يخل من التشويق والغرائبية (الاكسوتيكية). ويلاحظ في الرحلات الإسبانية للقرن الـ19حضور المواضيع الكبرى والصغرى التي أثارت انتباه الرحالة الاوروبيين الآخرين كالحمام والحريم والسوق وسلبيات الدين الإسلامي، إلا أن موضوع الطوائف أو الملل والنحل استأثر بالنجومية في كثير من المرات. فعلى حد تعبير الدبلوماسي نارثيسو بيريث ريويو: «تتميز هذه المناطق الفاتنة التي تعتبر مهد الجنس البشري والحضارات العريقة بطبيعة فريدة في نوعها من حيث تنوع الأعراق وتعدد العناصر البشرية الغريبة والعجيبة».

كتابات هؤلاء الإسبان لا تشذ عن القاعدة التي وسمت أدبيات الرحلة الأوروبية المدمنة على الأحكام المسبقة واستصغار شعوب المشرق العربي الموصومة بالتخلف والرجعية والعجز الكامل عن استيعاب قيم الحداثة. هكذا صارت سلبية العرب، والأتراك عموما، أحد المواضيع الدائمة الحضور في كتابات الرحلة الأوروببية والإسبانية. فالدبلوماسي أدولفو دي مينتابيري يلقي باللائمة على العرب لنسفهم «الحضارات المثمرة» التي سبقتهم، وهم قوم لا يحبون القراءة والدراسة والإبداع والابتكار وإنما يفضلون التراخي والملذات الدنيا. ومما يثير الاستغراب في أقوال الرحالة الاسبان أنهم لا يكادون يستقرون على البر المشرقي حتى تصدر عنهم هذه التشخيصات الجازمة. ويتسنى للقارئ في مثل هذه اللقطات التماس إصرار الرحالة على تحويل الواقع إلى عنصر تابع لخلفياته الفكرية والعقائدية وليس وسيلة للكشف عن الحقيقة. على سبيل المثال، يشرع الراهب فرانثيسكو باييسكا في تحرير يومياته هذا الشروع: «ملامحهم (العرب والأتراك) رزينة ومزاجهم يميل إلى الصمت والانطواء على النفس. إنهم يخطون خطوات ثقيلة ويتحكرون ببطء. شكلهم الخارجي ينمّ عن طبائع الكسل والتراخي وكذلك إيمانهم بالحتمية والجبرية». موقف مشابه يتصدى لنا في خطاب رحالة آخر، المطران مانويل دي توريس اي توريس حيث يقول تعليقا على سجية اليهود وهو يشاهد نفرا منهم منحنيا أمام حائط المبكى في القدس: «اليهود... دائما نظرت إليهم بمزيج من الهول والشفقة. على الرغم من أن محياهم وسيم فإن في عيونهم وصمة الجريمة والعار والخيانة».

تُعد مثل هذه الأوصاف سمة ملازمة لمعظم يوميات السفر، خصوصا حينما يرتبط الأمر بإرهاصات الخطاب الاستشراقي العجائبي من الحمام إلى الحريم مرورا بالبازار (السوق)، فلنراجع إحدى فقرات «الأرض المقدسة» من تأليف السيد أوربانو فيريروا، حيث ينتهز تفقده لسوق من أسواق بيروت لتصوير المشهد هكذا: «...وغالبا ما تجد صاحب المحل مستلقيا على البساط قاضيا وقته بين الغفلة واليقظة وهو يمسك قدميه بإحدى يديه، ما يعتبر من أحبّ أنماط التسلية واللهو إلى السوريين. إنك تراه سارح البال وكأن نظره غارق في عالم الأحلام الفسيح». انطلاقا من هذا الوصف يصل الكاتب إلى النتيجة الحتمية: «إن العربي والتركي حتى وإن انشغلا بنشاطهما التجاري الخاص يلازمهما التكاسل والجمود واللا مبالاة». مرة ثانية نقتفي آثار الحكم ما قبل التجربة والواقع، خاصة إذا أخذنا بالحسبان أن مدينة بيروت هي المدينة العربية الأولى التي يطأها هذا الزائر. ويتضاعف هذا الطابع الأسطوري عند الحديث عن الطوائف الأكثر إثارة للغموض. إن الخطاب الرحلوي عن الطوائف «الغريبة والاكسوتيكية» حافلة بأخطاء ومغالطات تتناقض في بعض الأحيان مع الدقة والعناية اللتين يظهرهما المسافر عند الحديث عن المعطيات الاقتصادية أو السكانية لهذه المدينة أو تلك. ومن سمات الخطاب الغرائبي التشويقي عن الفسيفساء العرقية الدينية في العالم الإسلامي التفسيرات الخاطئة لأصول ألقاب بعض المجموعات أو إلقاء الكلام على عواهنه لدى التطرق إلى عادات بعض الطوائف ومعتقداتها. ويسهل لنا من خلال استنتاجات الرحالة التحقق ممن عاشر معاشرة حقيقية المجموعات القاطنة في منطقة معينة ومن اقتصر على الاقتباس. وهذا الأمر بيّن في الفقرات المخصصة لعدد من الطوائف، خصوصا تلك القاطنة في المناطق الوعرة. وكلما تحدث الرحالة عن قوم لم يجالسهم ازدادت روايته إثارة وتشويقا. وإن كانت هناك ملة يصدق عليها هذا القول فإنها الملة اليزيدية القاطنة في ضواحي الموصل في العراق والتي قيلت عنها خرافات لا تحصى نراها مدونة في كتب الرحلة. والطريف أن المؤلف يقر أحيانا، كما هو الحال مع الدبلوماسي أدولفو دي ريبادينيرا، بأنه لم يشاهد مثل هذه العادات بأم عينيه وإنما علم بها من «اثنين من أعضاء الطائفة» نقلا له هذه الوقائع التي لم تلبث أن غدت حقيقة دامغة على الرغم من أن الكاتب لم يجر تحريا عنها. ولذلك يمكن الذهاب إلى أن ريبادينيرا وأمثاله ينقلون في كثير من المناسبات ما «سمعوا» عن غرائب الطوائف الغامضة وليس ما تأكدوه. وتحفل روايات السفر الأوروبية في القرن الـ19 بالهراءات والتخاريف بشأن اليزيدية، والمفارقة أن المعلومات تفند بعضها البعض، فليس من النادر أن يؤكد لنا مؤكدٌ أن اليزيديين يحرمون على أنفسهم اللون الأزرق وأكل الخسّ ثم نفاجأ بزائر آخر حلّ في القرية اليزيدية نفسها أو أخرى مجاورة يعلن بنبرة حازمة أن اليزيدية يقدسون اللون الأزرق ولا يرون غضاضة في تناول الخسّ إذا وُجد... تكمن إحدى سمات الخطاب عن الطوائف الشرقية لدى الرحالة الأوروبيين عامة، والإسبان خاصة، في المصادقة على أكاذيب وأنصاف حقائق لا تخلو من التطاول. وقاست بعض المجموعات الدينية في سورية ولبنان من هذه الظاهرة حيث نسبت إليها أفظع الممارسات وأفسق السلوكيات، وهناك مقولة تتكرر لدى جميع الرحالة الذين تناولوا أوضاع مجموعات معينة وتدور حول الأمسيات الجنسية الإباحية وارتكاب الفواحش. وفي هذا السياق يقول الدبلوماسي مانويل كينتانا: «يحكى أن هذه المجموعة (ويقصد النصيرية) يجتمعون ليلة طلوع البدر في مغارة رحبة يأخذونها مسجدا وهناك يجترحون السيئات ويهتكون الأعراض من دون أن يضعوا حدا لفجورهم». وتكثر مثل هذه الإشارات لدى سائر الرحالة سواء تعلق الأمر بالدروز أو النصيرية أو الإسماعليين وغيرهم. على كل حال، مقولة المجالس الإباحية لم يأت بها المسافرون الأوروبيون وإنما مقالات الملل والنحل العربية التي شهدت انتشارا لافتا في قرون البعثة الإسلامية الأولى. وفي حقيقة الأمر لا نجد فوارق كبيرة بين ما جاء في هذه المناهج الإسلامية العربية وما سجّله الرحالة الاسبان، فمن العلامتين الشيعيين النوبختي والقمي في القرن التاسع حتى ابن تيمية وفتاواه في القرن الرابع عشر تحتل وصمة «الشيوعية الجنسية» مكانا بارزا في قائمة التهم المسوقة ضد بعض الفرق. أي، هذا يعني أننا نجد أنفسنا أمام تهمة تضرب في الأزمان الغابرة اكتفي الكل بتردادها من دون إخراج البراهين والأدلة. وهكذا صارت الغيبيات مرة أخرى منهلا للواقع إذ أن أيا من المدوّنين لم يقر بمشاهدته لإحدى هذه الحفلات الخلاعية. وفي حين يعلن الرحالة ادولفو دي مينتابيري أن «أخلاقي تمنعني من وصف هذه الحفلات التي لم يتمكن أوروبي واحد من حضورها»، يخلص الوافدان فيرنانديث سانشيث وفريري فرّيرو(»سانتياغو، القدس، روما. يوميات زيارة إلى هذه الأماكن المقدسة وغيرها»، 1881) إلى القول بأنهما يرفضان حتى ذكر هذه المجموعات بصفتها «أكثر قبائل المنطقة انحطاطا وتدنيا». وعلما بأن زائري المنطقة الأجانب لا يذكرون احتكاكا مباشرا بعدد من المجموعات المعنية فلا بد من الجزم بأنهم نقلوا «أصداء» تلك السهرات النكراء عن ألسن لا علاقة لها البتة بالطائفة المشتبه فيها. ويراود المرء بعد مطالعة عينة من مشاهير الرحلة الإسبانية في القرن التاسع عشر الاعتقاد بأنّ الطوائف المعنية فاسقة لا محال لأن كتابات الرحلة مجمعة على ذلك. من جهة أخرى، الاحتجاج بالعفة والتنفر من حضور هذه الجلسات اللا أخلاقية عنصر نمطي في أدبيات الرحلة، فتضاف إلى الكلمات السابقة هذه الصادرة عن بيرنال دي أو ريلي الذي تبوأ هو الآخر مهام دبلوماسية: «ولا أظن أي أوروبي قادرا على حضور هذه الاجتماعات»… الاستشهادات السابقة لا بد أن تثير سؤالا ملحا: إذا لم تتسن لأحد مشاهدة هذه الأفعال الخادشة للآداب العامة فلماذا يصر الكل على إثباتها؟

* كاتب اسباني