هل افتعل الأميركيون الأزمة مع كوريا الشمالية لتأمين حضور أكبر في شرق آسيا؟

باحثان أميركيان يفتحان الملف النووي ويتتبعان سير المفاوضات بين الأميركيين والكوريين الشماليين منذ عهد جيمي كارتر

TT

فكتور د. شا وديفيد مي كانغ، استاذان في العلوم السياسية، يحاضران في الجامعات الاميركية ومتخصصان في الشؤون الكورية. كتابهما «الملف النووي لكوريا الشمالية: مناقشة في استراتيجيات المعاهدات»، عبارة عن مناقشة يعرضان فيها طروحات ووجهات نظر مختلفة ومتباينة في ما يخص اهداف كوريا الشمالية المتعلقة بالسلاح النووي. ومن طرحه لافكاره يبدو واضحا ان المؤلف كانغ اكثر تفاؤلا من زميله شا. انه على قناعة بأن كوريا الشمالية ترغب بصدق الانضمام الى المجتمع الدولي وشرعت باحداث جملة من التغييرات مشيرا بذلك الى اقتصاد السوق وسلوكها سلوكا اكثر اعتدالا.

اما البروفيسور شا، فإنه ينظر داخل مؤسسة السياسة الخارجية الاميركية ويجد انها في ذات الوقت تسلك سياسة الاحتواء تجاه كوريا الشمالية ويرى ان لا دلائل هناك تشير الى ان النظام الكوري الشمالي يرغب في التنازل عن هيمنته على شعبه او اقتصاده.

يرى الكاتبان ان لا احد سوف يأسف على رحيل كيم يونغ ايل، بيد انه اذا ما هوجمت كوريا الشمالية فإن سيول وكوريا الجنوبية بأكملها يمكن ان تزال من الوجود وكذلك طوكيو، وسيكون عدد الضحايا بمئات الألوف. لذا وبدلا من مواجهة كوريا الشمالية استهدفت الولايات المتحدة الاميركية العراق ودكتاتوره الذي لا يملك امكانيات رادعة اطلاقا.

عدد من المحللين السياسيين الاميركيين يؤكدون ان التهديد الصادر من كوريا الشمالية هو اكبر بكثير من ذلك في العراق. لذلك فقد ناشدوا ادارة بوش لفتح حوار مع بيونغ يانغ ومحاولة وقفها من المضي في تطوير برامجها النووية. غير ان بوش عوض ذلك اطلق كلمته الرنانة بـ «محور الشر» وهكذا تعلق الامر، ولم تستطع الولايات المتحدة فعل شيء ما لأن مستشاري بوش يقفون سدا حائلا بين اولئك الذين يريدون ان يرغموا كوريا الشمالية على الاذعان والطاعة واولئك الذين يميلون الى اتباع الطرق الديبلوماسية. وحين التقى المبعوثون الاميركيون المسؤولين الكوريين الشماليين عرضوا عليهم المطلب الاميركي في تخلي بيونغ يانغ عن برامجها النووية الا انهم لم يستطيعوا ان يعرضوا شيئا مقابل ذلك، اي انه لم يحصل تفاوض.

يدرك كيم يونغ ايل ومستشاروه جيدا ان بلدهم سيدمر اذا ما شنت الولايات المتحدة الاميركية هجوما على كوريا الشمالية وان نظامهم سينتهي بالكامل، لكن ما يخيف كل فرد في ادارة بوش هو دور كوريا الشمالية كـ «ثكنة للارهاب» وهو دور يبدو ان الكاتب كانغ لا يعير له اهمية كبيرة. وفي ما يتعلق بهذا الامر ترى اميركا انه لا مجال هناك للشك من ان كوريا الشمالية قد تبيع معدات نووية او اسلحة دمار شامل الى اعدائها او الى اي من الاصوليين المتشددين او اي احد يرغب في دفع السعر.

القادة الاميركيون واليابانيون والكوريون الجنوبيون وفي الآونة الاخيرة الصينيون، يعملون جاهدين الى ايجاد حل يتناسب ومشكلة برنامج كوريا الشمالية النووي الذي اكتشف في منتصف الثمانينات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 وميل حكومة بكين نحو كوريا الجنوبية بداية التسعينات. لم تخف بيونغ يانغ مخاوفها من احتمال شن هجوم اميركي عليها وهدفها في ضمان امنها من خلال بناء رادع نووي. الموضوع الاساس، على الاقل منذ عام 1991 هو الثمن الذي ينبغي ان يُقدم لكوريا الشمالية لاجل التخلي عن برنامجها النووي: حلف عدم اعتداء وعلاقات ديبلوماسية مع الولايات المتحدة الاميركية ومساعدات للتنمية من الاميركيين وحلفائهم وبدائل لمصادر الطاقة.

عام 1991 تغلبت ادارة بوش الاب على انقساماتها الداخلية وسمحت لموظف رفيع المستوى بلقاء مسؤول كوري شمالي في الامم المتحدة. وبعد ان اتفقت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على تعليق تمارينهما العسكرية المشتركة، التي رأت فيها كوريا الشمالية تهديدا لها، وقعت بيونغ يانغ اتفاقية تسمح لوكالة الطاقة الذرية العالمية القيام بعمليات التفتيش. كانت كوريا الشمالية على وشك الاذعان وتوقيع معاهدة حظر انتاج اسلحة نووية، الا انها تراجعت بسبب الاعلان عن اجراء مفترض لتمارين عسكرية مشتركة طلب القيام بها جيش كوريا الجنوبية وارتاب منها بشكل خاص الشماليون. كانت العملية من تنظيم وزير الدفاع الاميركي ريشارد جيني. جيني ومستشار بوش للامن القومي برنت سكوكروفت عارضا ما كان يعتبرانه الاذعان الى الابتزاز النووي ووقفا امام جهود جديدة لتعيين موعد اجراء حوار عام 1993 وبعد ان وضعت وكالة الطاقة الذرية يدها على ادلة تشير الى خداع كوريا الشمالية حول تطوير برنامجها النووي كان ملف المشكلة المعلقة قد سُلم الى ادارة الرئيس الجديد بيل كلينتون.

في الولايات المتحدة الاميركية كانت هناك اصوات تطالب بفرض حصار اقتصادي والقيام بعمل عسكري ضد كوريا الشمالية وهذه الاصوات جاءت من سكوكروفت وآخرين ممن يرون ان هناك حاجة ماسة لمنع بيونغ يانغ من الحصول على اسلحة نووية. وفي سبيل ذلك اطلقت حملة لاستحصال موافقة من الامم المتحدة لفرض حصار على كوريا الشمالية رغم تحذيراتها من هذا الحصار الذي اعتبرته بمثابة اعلان حرب ضدها. كذلك اتخذت الاجراءات لقصف المفاعلات النووية لكوريا الشمالية واعلنت كلتا الكوريتين التعبئة العسكرية العامة لقواتها. غير ان تدخل الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر في يونيو (حزيران) عام 1994 كان العامل الاساس في درء قيام الحرب.

لقد التقى جيمي كارتر الرئيس الكوري السابق كيم ايل سونغ واستطاع الحصول على اتفاقية لوقف برنامج كوريا الشمالية النووي، والسماح لوكالة الطاقة الذرية للتحقق من هذا التوقف، والاستمرار في المباحثات على مستوى رفيع لاجل تسوية شاملة، لكن مستشاري كلينتون خشوا من مضاعفات سياسية محلية لهذا الاتفاق، وانتهز كلينتون هذه الفرصة لكي يسلط الضوء على هذه الازمة ويعيد فتح باب المفاوضات. كانت تلك واحدة من الخطوات المهمة لادارة كلينتون الاولى التي اراد بها ان يبرهن على مرونته وتهدئته للامور. ورغم موت القائد الكوري الاب المفاجئ كيم ايل سونغ في يوليو (تموز) 1994 فإن الديبلوماسيين الاميركيين والكوريين الشماليين وقعوا في اكتوبر (تشرين الاول) 1994 ما سمي آنذاك بـ «اطار العمل المتفق عليه».

كان الكوريون الشماليون على وشك وقف البرنامج النووي وتفكيك مفاعلاتهم النووية والقيام بالتسهيلات المتعلقة بذلك، وكانت الولايات المتحدة من جانبها تريد رصد تمويلات مالية لتزويدهم بطاقة مفاعل ماء خفيف اقل خطورة من المفاعل النووي وبديلا عنه. والى ان يتم انشاء اول هذه المفاعلات كانت الولايات المتحدة تريد تزويدهم بالزيت الثقيل لاغراض التدفئة والكهرباء. ووعد كلا الجانبين بالتحرك صوب تطبيع العلاقات والاقتصاد والسياسة. كذلك وعد الكوريون الشماليون بالانضمام الى معاهدة حظر انتاج الاسلحة النووية والسماح لوكالة الطاقة الذرية القيام بعمليات التفتيش. لكن مشروع هذه الاتفاقية هوجم بشدة من قبل الجمهوريين وحكومة كوريا الجنوبية. ويعتقد الكاتبان شا ويانغ بأنها كانت بالفعل لحظة اتفاق كبير لخلق منطقة منزوعة السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. وكان من المحتمل ايضا ان تؤدي تلك اللحظة الى بعث الامل في كوريا الشمالية الى الاندماج في النظام العالمي الذي تقوده اميركا.

ولسوء الحظ لم يحقق «اطار العمل المتفق عليه» النتائج الطيبة التي كان يأملها المناصرون له. فقد اخفقت ادارة كلينتون في الالتزام بتعهداتها وذلك بسبب المعارضة الشديدة في الداخل، خاصة بعد ان سيطر الجمهوريون على مجلس النواب عام 1995، اضافة الى ذلك، بدأ الكوريون الشماليون حينما بدأوا بشكل سري برنامجهم الثاني لتطوير الاسلحة النووية. بعد ذلك طردوا مفتشي وكالة الطاقة الذرية ورفضوا الانضمام الى معاهدة حظر انتاج الاسلحة النووية ويبدو انهم عاودوا العمل بالمفاعلات التي اغلقت عام 1994. اذن كيف يمكن ان يكون رد فعل الولايات المتحدة الاميركية ازاء هذه الازمة؟

في هذا الصدد يتفق مؤلفا الكتاب على احتمال عدم قيام كوريا الشمالية بالتخلي عن برامج اسلحتها النووية، لكنهما، ومن جهة اخرى، يصران على اهمية عرض الولايات المتحدة رغبتها في اجراء المباحثات. ويبدي المؤلف شا مخاوفه من بدء كوريا الشمالية سرا العمل في برنامجها النووي الثاني في اكتوبر عام 2002 ويجد ان عودتها مجددا الى «اطار العمل المتفق عليه» ينبغي ان تكون قبل استئناف المباحثات. مع ذلك يمكن تفهم ان الاميركيين، وبعد ان حولوا انظار اغلب المجتمع الدولي نحو العراق، لا يعني انهم وحدهم المسؤولون عن اخفاق حل مشكلة كوريا الشمالية.

ورغبة بوش الجديدة في اجراء حوار تشير بوضوح الى اعتراف الاميركيين بالحاجة الى تأسيس موقف جماعي للقيام بعمل دولي حازم وفي ذات الوقت توضح ان بيونغ يانغ ليس في نيتها تسليم اسلحتها النووية.

ان اسلوب ادارة بوش في التعامل مع تهديد كوريا الشمالية النووي ربما يلخص كل ما حدث من اخطاء في سياستها الخارجية، فقد اطلقت اميركا العنان للتبجح والتلويح بسيف القوة، فيما كانت في الواقع تضع العقبات امام حل للمشكلة. وقد زعزعت تحالفها المهم مع كوريا الجنوبية من دون مبرر، وبسبب اصرارها ومواقفها الاحادية الجانب فقدت الارضية التي يرتكز عليها الرأي العام العالمي، وفي شبه الجزيرة الكورية جعلت من الوضع المتأزم اصلا اكثر تأزما.