الثقافة العراقية بين البابطين واليونسكو

فاضل سلطاني

TT

بادرتان، تجاه الثقافة العراقية، واحدة عربية والأخرى دولية، سمع عنهما هذه الأيام. عربياً، أعلنت مؤسسسة البابطين الكويتية عن تنظيم ملتقى للشعر العراقي ذي برنامج طموح: محاضرات عن الشرق العراقي، إصدرات مطبوعات، وترجمات إلى اللغة الإنجليزية، وتنظيم أمسيات شعرية بالطبع. والهدف من ذلك الملتقى هو تطبيع العلاقات الثقافية بين البلدين، و«التواصل مع التجربة الشعرية العراقية، والمساهمة في إخراجها من العزلة والتغييب والتسييس الإبداعي الذي كان مفروضاً على مبدعي العراق وشعرائه». حسبما جاء في بيان مؤسسة البابطين («الشرق الأوسط» في2/25). وبالطبع، فإن مقر اقامة الفعالية، ليس في بغداد، وإنما في الكويت.

ودولياً، تجري الاستعدادات، غير المعلنة بعد، عن ترتيب لقاء موسع يحضره حوالي 200 مثقف عراقي، من الداخل والخارج، تدعو له اليونسكو، ويشرف عليه مثقفون عراقيون بدعم من وزارة الثقافة العراقية. والمكان هذه المرة أيضاً، ليس بغداد، وإنما باريس.

وبالطبع، لا يملك المرء سوى مباركة هاتين المبادرتين حسنتي النية، الا ان ذلك لا يمنع التحسر على المبالغ الطائلة التي ستصرف فيما لا يفيد، فكلتاهما قد أخطأتا العنوان. في هذين اللقاءين سيرتفع غناء الشعراء عن العراق المعذب، وعن المنفى الذي أكل نصف أعمارهم، بينما تكفل صدام حسين بالنصف الآخر. وسيناقس المنظرون مشكلات الثقافة العراقية، وسبل النهوض بهذه الثقافة. وسيقص القصاصون أهوال بغداد التي خلفوها وراءهم. ولن ينسى كل هؤلاء بالطبع أن يتحدثوا عما فعله صدام حسين بالثقافة العراقية، طارحين تصوراتهم عما يجب أن نفعله لاستعادة بغداد الثقافية، سيحدث كل ذلك، لكن من الكويت وباريس.

هي الذهنية ذاتها، والصخب «الاحتفالي» ذاته.

أليس من الأجدى أن تخصص مؤسسة البابطين، وغيرها من الممؤسسات العربية القادرة، جزءاً من المبالغ التي ستصرفها على لقاءات تنتهي مع انتهاء االسياحة الثقافية والولائم الثقافية، في بناء مركز ثقافي، أو دعم جمعية ثقافية عراقية لا تملك مالاً حتى لتنظيم أمسية واحدة بعد انقطاع المعونات الحكومية. انها بذلك تساهم فعليا في إعادة إعمار الثقافة العراقية، كما فعلت المنظمات الثقافية الاوروبية في البوسنة. و«إخراجها من العزلة والتغييب والتسييس الإبداعي»، بحسب بيان المؤسسة، معوضين بذلك، في الأقل، عن قصور الحكومات العربية في المساهمة في البناء المادي. وكم سيكون جميلاً لو أن اليونسكو، وهذا من صلب مهامها، قد عملت على ترميم هذا المتحف أوذاك، والمعالم الثقافية التي يكاد يطمرها التراب والجهل وقصر نظر اولي الأمر الآن، بدل أن تعد للقاء حاشد تحت سماء باريس!.

لقد كتبنا مرة في هذه الصفحة عن الفراغ الثقافي الموحش في العراق. ونشرنا تصريحا للمستشار الثقافي لسلطة التحالف، الايطالي الاصل، ذكر فيه أن هناك أنهاراً من الدولارات تجري تحت أقدام الثقافة العراقية، من اجل الإعمار الثقافي. الا اننا لم نر بعد قطرة واحدة من تلك «الانهار». ثم تشكلت وزارة وطنية للثقافة، ولجان كثيرة تابعة لها، واستبشرنا خيراً، لكن لم نلمس حتى الآن شيئا على ارض الواقع. ليس صعباً على العراق الثقافي ان يستعيد نفسه بتقاليده الثقافية العريقة التي استعصت على إعلام صدام حسين، بشعرائه وبكتابه وفنانيه المنفيين والمقيمين، وقرائه الذين شابوا على أرصفة المتنبي يستنسخون الكتب في عهد الطاغية وسنوات الحصار. نقول ليس صعبا، لو توفرت رؤية سليمة عند اولي الأمر والمثقفين أنفسهم قبل كل شىء، وهذا للاسف غير موجود لحد الآن، وليس بسبب السياسة فقط.