يافا الفلسطينية.. ذاكرة متوهجة في عمل موسوعي

لاحظ اليهود أن نمو يافا السريع يهدد بإفشال مخططاتهم في فلسطين فأرسلوا باحثين ورحالة وآثاريين لدراسة أحوالها

TT

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت موسوعة «يافا الجميلة» ويوزع في الاردن في دار الفارس للنشر والتوزيع وهو عمل وثائقي شامل من إعداد المحامي علي حسن البواب.

وقد نشأت فكرة إعداد هذه الموسوعة من حقيقة أن هذه المدينة العربية العريقة التي كانت قبل عام 1948 العاصمة السياسية والاقتصادية والثقافية لفلسطين، كما كانت أكبر مدينة فيها، لم يكتب عنها بشكل متخصص كما أنها عانت من الإهمال والتهميش والتعتيم عليها من قبل العدو الإسرائيلي، ولم يتصد للكتابة عنها بشكل موضوعي إلاّ نفر قليل من رجالاتها الكُثُر.

فقد لاحظ معد الموسوعة من خلال قراءاته العديدة عن هذه المدينة أن اليهود اعتبروا عند تخطيطهم لإقامة الوطن القومي المزعوم لهم في فلسطين، أن هذه المدينة كانت أكبر تجمع حضري ومدني في فلسطين، وأن نمو هذه المدينة السريع يهدد بإفشال مخططاتهم في فلسطين، لهذا لجأوا إلى إرسال الدارسين والباحثين والمستشرقين والرحالة والرسامين والآثاريين لدراسة أحوال فلسطين، وبالذات مدينة يافا وجوارها.

وقد وجد القائمون على تنفيذ المشروع الصهيوني أن نجاح مشروعهم لا يكون إلاّ بحصار وتحجيم هذه المدينة من جهاتها الثلاث الشمالية والجنوبية والشرقية بالعديد من المستعمرات التي كان لها عدة أهداف أهمها إقامة هذه المستعمرات بشكل متاخم وملاصق لمدينة يافا بشكل يضمن عدم توسع هذه المدينة في الاتجاهات الثلاث المذكورة، كما كان من أهم هذه الأهداف محاصرة المدينة من جهاتها البرية الثلاث، أما من الجهة الرابعة وهي الغربية حيث يوجد البحر الأبيض المتوسط فإن وحدات الأسطول البريطاني كانت تحكم إغلاق وحصار هذه المدينة، وقد ثبتت جدوى هذا الحصار في أحداث عامي 1947 و1948، حيث قامت هذه المستعمرات بمنع وصول إمدادات السلاح والرجال والمؤن، كما قام اليهود من خلال مواقع في هذه المستعمرات بقصف المدينة بقذائف المدفعية والألغام الطائرة، ومختلف أنواع القذائف الأمر الذي أرعب سكانها وساهم في تدمير العديد من أحيائها، كما دفع سكانها إلى الإسراع في إخلائها.

كما لاحظ معد الموسوعة كذلك أن سلطات الاحتلال البريطاني ركزت جهودها خلال فترة احتلالها لفلسطين على خنق هذه المدينة من الناحية الأمنية، ووضعها في وضع متوتر قلق بهدف التأثير على نشاطها الاقتصادي باعتبارها أكبر مصدّر للحمضيات في الشرق الأوسط، وكونها أكبر سوق تجاري في فلسطين، كما أنها أكبر ميناء فيها، والأهم من هذا كله أنها كانت مفتاح وبوابة وميناء أشهر وأقدس وأهم مدينة في التاريخ وهي القدس الشريف.

كما عملت سلطات الاحتلال البريطاني على الحد من أهمية هذه المدينة من خلال اغتنامها لأحداث الإضراب الكبير الذي وقع في عام 1936 لتقوم بنقل بعض الدوائر الحكومية الأهم مثل دوائر الأراضي والجوازات والجنسية، والاقتصاد والتجارة التي كان مقرها قبل الأحداث في يافا إلى (مستعمرة) مدينة تل أبيب المجاورة والتي كانت في ذلك الوقت مجرد ضاحية من ضواحي مدينة يافا.

كما قامت سلطات الاحتلال البريطاني خلال ذلك الإضراب بافتتاح ميناء تل أبيب الأمر الذي أدى إلى تحول كافة البواخر إلى ذلك الميناء المزود بأفضل المعدات، الأمر الذي أدى بدوره إلى تراجع أهمية ميناء يافا تدريجياً. كما أدى إلى تحول التجارة ورؤوس الأموال والوكالات التجارية إلى التجار اليهود، وقد أدى ذلك إلى إصابة البضائع العربية بالكساد، وأفلس الكثير من التجار، ولجأ الكثير منهم إلى بيع أملاكهم لصالح اليهود.

وبهدف طمس معالم هذه المدينة لجأت سلطات الاحتلال البريطاني في عام 1936 إلى هدم أجزاء كبيرة من البلدة القديمة التي كانت قصبة يافا وبؤرتها، والتي كانت تضم أعرق البيوتات اليافوية، وقد أدى هذا الهدم إلى تدمير العديد من البيوت والمساجد والمقامات والزوايا والمدارس والكتاتيب والكثير من معالم هذه المدينة العريقة. وبعد احتلال اليهود للمدينة عام 1948 لجأوا إلى تدمير أجزاء أخرى من أحياء البلدة القديمة، كما قاموا بتهويد ما تبقى من أحياء البلدة وشوارعها، كما قاموا بهدم أجزاء أخرى من المدينة مثل أحياء المنشية وارشيد والمحطة.

بدأ معد الموسوعة في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي بجمع كل ما يتعلق بالتراث الشعبي لسكان المدينة قبل عام 1948، وبشكل خاص النصوص الغنائية المتعلقة بالعادات والتقاليد والمناسبات والأعياد والمواسم الدينية والشعبية للسكان العرب.

ولهذا الغرض قام معد الموسوعة بمقابلة المئات من رجال ونساء المدينة الذين عاشوا فيها قبل الشتات وكانوا عند ترحيلهم منها في وضع يمكنهم من تذكر أحداثها، وقد جمع الكثير من المعلومات الخاصة بموسم الحج والاحتفالات التي كانت ترافقه وغناء الحنين الذي كان يغنى، وما يتعلق باحتفالات شهر رمضان المبارك ولياليه، وعيد الفطر المبارك، ومناسبات الطهور وختمة القرآن الكريم، واحتفالات الفرق الدينية وأصحاب العدة والمولد النبوي وإقامة الحضرة وليالي الذكر، ووثق لمواسم النبي روبين الشهير وموسم سيدنا علي والنبي أيوب والنبي صالح.

كما قام معد الموسوعة بتوثيق الأعياد والمناسبات الدينية لدى الطوائف المسيحية مثل عيد الصليب والبربارة والغطاس والميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية، ومهرجان التقليعة والصيام الكبير وأسبوع الشعانين والفصح وخميس الأموات والجمعة العظيمة وسبت النور وعيد الفصح وعيد القديسة ضبيطا وعيد العنصرة (عيد جريشة). كما قام معد الموسوعة بجمع وتوثيق التقاليد والعادات الخاصة بالخطبة والزواج ابتداء من الخطبة مروراً بعقد القران (كتب الكتاب) واحتفالات الحنة وبرزة الحمام، وحمام العروسين وزفة العريس والجلوة وتبريزة العروسين وأغاني الجلوة، والتخطيرة، وكافة الأغاني والأهازيج والشوباش والزغاريد وكل ما يقال في احتفال الزواج سواء كان في حفل النساء أو في سهرة الرجال.

وفي مطلع عام 1994 تمكن الباحث من العثور على مصدر غني جداً بالمعلومات المتعلقة بجغرافية البلدة القديمة ليافا التي كانت قابعة داخل الأسوار، في القرن التاسع عشر، ويتمثل هذا المصدر على سجلات المحكمة الشرعية ليافا وكذلك على سجلات الطابو (الأراضي) العثماني، وهي سجلات محفوظة في أشرطة ميكروفيلم في مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية بعمان. وقد مكنت هذه الوثائق معد الموسوعة من الاطلاع على معلومات في غاية الأهمية عن مكونات البلدة القديمة، والتي كان من حيث الحجم والدور الذي لعبته لا تقل أهمية عن جارتها وتوأمها البلدة القديمة في القدس الشريف.

بادر معد الموسوعة في مراجعة عشرات الألوف من الحجج الشرعية والوثائق والصكوك، وأقام في بيته مركزاً مصغراً للأبحاث عن هذه المدينة، رصد وجمع كل ما وصلت إليه يديه من معلومات ووثائق ولوحات مرسومة وصور وخرائط، وبدأ في ترتيب وتبويب وفهرسة هذه المعلومات وجعلها في وضع يسمح بنشرها.

ففيما يتعلق بداخل البلدة القديمة ليافا قام بجمع كافة المعلومات المتعلقة بحارات وأحياء البلدة، والقصور والدور الكبيرة وبيوت البلدة، وأحواشها وأزقتها وخطوطها وأسواقها ووكالاتها التجارية والأسبلة والآبار داخل البلدة وخارجها، والسباطات والقناطر والأقواس والقلاع والأبراج وأسوار وبوابات البلدة والجوامع والكنائس والأديرة والحمامات التركية العمومية ومقامات الأولياء والزوايا والأضرحة ومصابن البلدة القديمة والخانات والإسطبلات واليواخير والسروجية والمعاصر والأفران والمقاهي والمصابغ والمقابر.

وفي السياق نفسه وصف معد الموسوعة الأحوال خارج أسوار البلدة القديمة، فوصف ميدان الساعة وبداياته وتكوينه، والأسواق المتفرعة عنه، والأحياء والضواحي التي نشأت خارج الأسوار والأراضي الزراعية بأنواعها وذكر أسباب انتقال الأراضي إلى اليهود، وذكر بالتفصيل أسماء ما يقرب من ألف بيارة مزروعة بالحمضيات (1000) كمثال للبيارات المحيطة بالبلدة كما ذكر ما يقرب من (700) كرم، والعشرات من الشلافات والصّيَرْ والبساتين.

كما ذكر السواقي والنواعير، والقرى التابعة لقضاء يافا، كما عدد السكنات والطرق المحيطة بالبلدة والموصلة إلى ضواحيها، والسكك الحديدية كما ذكر الطرق الزراعية المحيطة بها، والضهرات والتلال والوديان وأحجار الطحن المقامة على نهر العوجا والدباغات التي كانت مقامة على شاطئ العجمي، ووصف الخندق الذي أقامه الوالي أبو نبوت حول البلدة لحمايتها، كما ذكر المحاجر والمقالع والمطاين، والمرامل والبصات والجسور وسيول الماء والشلالات والبرك والكهوف والمغارات وصخور الشاطئ، وموقع الكازاخانه، ووصف نهر العوجا ونهر روبين، اللذين يصبان شمالها وجنوبها، كما عدد أسماء العشائر البدوية التي كانت تسكن في جوار البلدة.

وكان معد الموسوعة قد بدأها بنبذة تاريخية مختصرة عن يافا في العصور القديمة، فذكر أهمية المدينة، وموقعها، وذكر الحوادث التي تعرضت فيها للحصار والتدمير، فذكر حصار علي بك الكبير وحصار محمد بك أبو الذهب وحصار نابليون وكلها وقعت في أواخر القرن الثامن عشر، ووصف أحوال البلدة بعد حصار نابليون لها وحرقها ودكها بالمدافع، كما ذكر حصار الجزار لواليها مع باشا أبو مرق في مطلع القرن التاسع عشر، كما ذكر حملة إبراهيم باشا عليها في 1830.

كما عدد معد الموسوعة الولاة والحكام والمتسلمين وضباط الأسكلة والمحصلين والقائمقامين، الذين تعاقبوا عليها وذكر محمد أمين باشا أبو نبوت، حياته وأعماله فيها، كما ذكر سعيد بك المصطفي وأولاده الذي تولوا أمر المدينة في منتصف القرن التاسع عشر وهو جد آل السعيد بيافا، كما ذكر في هذا السياق ديوان الحكم بيافا، وسرايا المدينة داخل الأسوار وخارجها.

وعن مرحلة الاحتلال البريطاني لفلسطين، ذكر معد الموسوعة نبذة عن ظروف إصدار وعد بلفور وقيمته القانونية، كما ذكر نبذة مختصرة عن عصبة الأمم وصك الانتداب وقيمته من الناحية القانونية ونتائجه، وذكر أوضاع يافا تحت الاحتلال البريطاني، وأحداث عام 1933، وثورة عام 1936 (الإضراب الكبير) أسبابه ونتائجه، كما أورد تقريراً أعده أحد رجالات المدينة الذي كان من أواخر من غادروها وشاهد بأم عينه مأساة احتلال اليهود لها، وذكر أسباب سقوطها، وعدد شهدائها في الوطن والشتات.

ولاحظ معد الموسوعة أن معظم المعلومات التي جمعها عن المدينة كان مصدرها سجلات المحاكم الشرعية في القرن التاسع عشر، فذكر أوضاع القضاء الشرعي في بداية القرن (19) وعدد القضاة الذين تولوا القضاء بها في القرن19، وحتى عام 1948، كما ذكر أسماء من تولوا الكتابة فيها، كما عدد أسماء من تولوا وظيفة الإفتاء بها، كما ذكر نقابة الإشراف بها وأسماء من تولوا نقابة الإشراف والأسر المنتسبة إليها. وفيما يتعلق بالحياة العامة، أورد معد الموسوعة أسماء أهم رجالات المدينة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما عدد شعراءها وأدباءها، وذكر قصائد الشعراء فيها كما عدد الأندية والجمعيات والأحزاب واللجان التي تأسست فيها في النصف الأول من القرن العشرين وعدد الصحف والمجلات التي صدرت فيها، كما ذكر المطابع والمكتبات فيها كما ذكر أسماء المطربين والمطربات ونماذج من المواويل المصرية والبغدادية، ونماذج من الغناء الشعبي، وأغاني الأطفال، وتهليل الأمهات للأطفال للنوم، كما ذكر نبذة عن الشعراء الشعبيين، وعدد مقاهي وملاهي ومسارح المدينة، ودور السينما. وفي الختام ذكر معد الموسوعة نبذة عن ظرفاء وأذكياء وفتوات ومجاذيب المدينة، ومواقف ظريفة وقعت بها.

تحتوي موسوعة يافا على (534) صورة معظمها ينشر للمرة الأولى جرى جمعها من أبناء المدينة، ومن العديد من المصادر العربية والأجنبية.

كما قام معد الموسوعة بإعداد ثلاث خرائط للمدينة هي الأولى من نوعها جرى إرفاقها بالموسوعة:

الأولى: للبلدة القديمة خلال القرن التاسع عشر وقد ظهر عليها ما يقرب من 380 موقعاً تمثل أهم معالم المدينة في ذلك الحين.

الخريطة الثانية لضواحي البلدة القديمة وجوارها وقد ظهر عليها (256) موقعاً للسكنات والقرى والبيارات والمعالم الرئيسية.

الخريطة الثالثة: وهي من مواقع سجلات بلدية يافا، تظهر المدينة كما كانت عام 1948، وتظهر الأحياء والشوارع والأسواق والمرافق العامة.

تقع موسوعة يافا الجميلة في جزءين، وتتكون من 1750صفحة من القطع الكبير، وهي مجلدة تجليداً فاخراً، وهي في شكلها ومضمونها تليق بهذه المدينة الجميلة العربية.