حكايات الغذامي العربية

فاضل السلطاني

TT

أي شيء خطير قاله الناقد السعودي د. عبد الله الغذامي ليثير كل هذه العاصفة من النقد حتى قبل توزيع كتابه الجديد «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» في المكتبات، ويجمع على هجومه المحافظون والحداثيون معاً؟

واكثر من هذا، ان تلصق به دفعة واحدة، تهمتا العلمانية والالحاد. اكبر تهمتين في عصرنا العربي «الحديث»، واسهل تهمتين في الوقت نفسه؟ (انظر «الشرق الأوسط» في 2/28).

وقبل ان نجيب على هذا الاستفهام، لا بد ان نقول ان صاحب «النقد الثقافي» قد اجاد اللعبة هذه المرة أو ما يسميه التحايل وقبض على السر الذي يغزو فيه الأدب عقولنا ووجداننا. فقد لجأ الى اسلوب الحكاية، بكل ابعادها الرمزية ودلالاتها الروحية المتغلغلة في لاوعينا، ليطرح من خلال ذلك القضية الأخطر في عصرنا الحديث التي ما تزال تدوخ رؤوس الكثيرين غربا وشرقا، وهي قضية الحداثة.

ومن هنا، سيحقق الكتاب غرضه، وهو استفزاز العقل الجماعي الذي انتج مثل هذه الحكايات، ودفعه لفهم رمزيتها ودلالتها التي حجبها الترداد والنقل الشفهي من لسان الى لسان. انه استفزاز ايجابي لا بد منه لتحريك الساكن فينا الذي حولناه الى حقائق مطلقة.

كان كتاب الغذامي السابق «الخطيئة والتكفير» يتوسل الفكر النظري للوصول جوهريا الى النتائج نفسها التي وصل اليها كتاب «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية». لكن مدى الكتاب الأول ظل درسا قصيرا محصورا على اروقة الجامعات، ومكتبات المثقفين. ومن هنا جاءت لعبة الغذامي في كتابه الأخير لعبة ذكية بامتياز، وهي تذكرنا بمحاولات كثيرة لجأ اليها الكتاب، وخاصة في العصر العباسي لتبليغ ما يريدون بوسائل اقرب الى فهم الناس بعيدا عن الوسائل الأدبية والفكرية التقليدية. وهل هناك اكثر تأثيرا من الحكاية؟

وفي هذه الحالة، او الحيلة سيكون المؤلف هو المستهدف، وليس الافكار والنظرية كما في الحملة على شخص الغذامي.

وعودة الى الاستفهام الأساسي، لا نجد ان الرجل قال شيئا خطيرا، إلا بالنسبة الى العقول التي تريد ان تبقى الى الأبد مطمئنة الى الراحة الذهنية والفكرية، مدافعة عنها بتوجيه التهم السهلة لكل من يريد ان يسائل مشروعية هذه الطمأنينة في أمة، تحتاج اكثر مما تحتاج، الى طرح الاسئلة على نفسها وواقعها وحاضرها وماضيها ايضا.

لم يقل الناقد الغذامي سوى ما ردده الكثيرون من قبل: اننا لم نعرف الحداثة بعد، وان النسق المحافظ هو القاسم المشترك في حياتنا وتصوراتنا وممارساتنا، وفي انتاجنا الفكري ايضا. نعم، لقد طورنا الوسائل فعلا، بينما اذهاننا لم تتطور بعد، وسكنا في فيلات حديثة، لكننا لسنا حديثين واستبدلنا بالجمل السيارة لكننا ما زلنا ربما في متاهة الصحراء، وكتبنا القصيدة الحديثة وقصيدة النثر، لكن الحداثة الحقيقية شيء آخر مختلف تماما. انها ازاحة اجتماعية واقتصادية وجمالية كبيرة، وظاهرة حياتية متطورة لها انعكاساتها، وانفجاراتها الجمالية بالضرورة. لكن هذه الانفجارات ليست هي الحداثة، بل جزء منها.

لقد عزلنا طويلا الحداثة عن سياقها الاجتماعي وخلطنا بينها وبين «الجديد» و«المعاصر»، واكثر من هذا قصرنا الحداثة، ادبيا، على النثر الفني او غير الفني بعد ان قطعناه الى ابيات، واجتماعيا على استبدال السيارة بالجمل، واقتصاديا على امتلاك الأدوات يدويا، دون ان نمتلكها ذهنيا، حتى وصلت الجناية بالحداثة الى قمة تحققها في الوطن العربي، وطن الحداثة الأولى الحقيقية في العصر العباسي قبل ان تعرفها اوروبا بقرون.