ثورة انتشار الكتب وتداولها منذ فجر الإسلام

باحثون عرب وأجانب يتناولون صناعة الكتاب العربي والاسلامي ويتتبعون تطور الكلمة المكتوبة وشأنها البالغ في الحياة الإسلامية

TT

يضم هذا الكتاب مجموعة دراسات كتبها باحثون بارزون، حاول كل منهم أن يستجلي ملمحاً من ملامح الكتاب في الحضارة الإسلامية، وأن يقدّم رؤيته لجانب من جوانب تلك الصورة المشرقة التي احتلها الكتاب في ضمير الأمة.

ومع أن تطوّر الكتاب من شكله البدائي إلى شكل الدفاتر والكراريس، ثم إلى الشكل المخطوط، يدين بالكثير إلى المؤسسات الثقافية المسيحية في العصرين: الروماني والبيزنطي، إلا أنه في العالم الإسلامي كان أكثر ارتباطاً بالإسلام كدين، وباللغة العربية والخط العربي. وقلما لعبت الحياة الأدبية في أي ثقافة أخرى دوراً كالدور الذي لعبته الحياة الأدبية في الإسلام، فالقرآن الكريم (الكتاب) أثر تأثيراً كبيراً في الثقافة العربية والإسلامية وبتأثيره ظهرت عدة علوم، واشتغل علماء المسلمين بالعلم، أكثر من اشتغالهم بأي شيء، وفي العصر العباسي الذهبي تطوّرت طرق النشر والنسخ والتجليد وبيع الكتب إلى درجة كبيرة، وأسهم ظهور الورق في القرن الثأمن الميلادي في ثورة انتشار الكتب وتداولها وكان قوة دافعة للأدب وفنون الكتابة، وطوّر المسلمون الورق باستخدام مواد وطرق جديدة في صناعته، كانت بمثابة الثورة التي أحدثها جوتبنرج في القرن الخامس عشر باختراعه الطباعة بالحروف المتفرقة.

كان ظهور الورّاق الذي ينسخ الكتب نقطة بارزة في «حضارة الكتاب» وكان الوراقون حلقة الوصل بين العلماء والجمهور، ولم يكونوا يهتمون بالخط الجميل فقط، وإنما كانوا يهتمون أيضاً بصحّة النسخ ودقة نقل النصوص، وكانوا ينسخون ويبيعون الكتب أيضاً، وكان الكثير منهم من أهل العلم والأدب كالجاحظ مثلاً الذي كان مؤلفاً متعدّد الجوانب وعاشقاً للقراءة، كان يستأجر حوانيت الوراقين ويبيت فيها للقراءة، وقد خصص جزءاً كبيراً من كتابه الشهير (الحيوان) لموضوع الكتاب، وفيه يتحدث عن الكتاب كصديق وكوعاء للعلم وكوسيلة للنجاح في كل نشاط إنساني، ويقصّ حكايات عن جمع الكتب والنسخ والكتابات القديمة، وعن صيانة التراث الثقافي، وعن الترجمة بصفة عامة وترجمة الكتب الدينية بخاصة، وعن تحقيق الكتب، وعن الاختلاف بين التراث المكتوب والتراث الشفهي. وعلى مدى تاريخ الإسلام، كان نقل الكتب مشافهة يسير جنباً إلى جنب مع نقلها كتابة.

تضمّن الكتاب عدة بحوث تتصل بالكتاب ودراسته في العالم الإسلامي، فمحسن مهدي يؤكد في بحثه (من عصر المخطوطات إلى عصر المطبوعات) الحاجة إلى مزيد من المعلومات عن تاريخ الكتب في العالم الإسلامي، ويبّين أسباب تأخر طباعة الكتب الدينية عند المسلمين إلى القرن التاسع عشر، ويتعجب من عدم تطبيق أساليب النسخ الممتازة وطرق التجليد وفنون الزخرفة في إنتاج الكتب الحديثة، ويثير عدة تساؤلات تمخّض عنها ظهور الطباعة، مثل أثر الترجمات في تطوّر العلوم واللغات وقواعد الإملاء، ويدعو إلى الحفاظ على التقاليد والأساليب العلمية وإلى عدم إغفال التقنيات الحديثة في تحقيق وحفظ الثروة الضخمة من المخطوطات التي ما زالت موجودة في العالم الإسلامي.

ويناقش فراتز روزنتال موقف الإسلام من الكتب في بحثه «عالم الكتاب... عالم بلا نهاية»، ويعرض المشكلة التي سببتها كثرة المؤلفات من حيث الكم والكيف، كما يناقش موضوع إتلاف الكتب، ويتحدث عن معنى الأصالة وحدودها، وعن العلاقة بين المعرفة والكتب، وينبّه إلى ضرورة التفرقة الواضحة بين المعلومات الشفهية والمعلومات المدونة. وتناول هذا الموضوع بالتفصيل الباحث سيد حسين نصر، فناقش «دور الرواية الشفهية في العملية التعليمية» على مدى التاريخ الإسلامي، وتحدث عن الكلمة المنطوقة كمكمّل للكلمة المكتوبة، أما المستشرقة الألمانية الكبيرة الراحلة آن ماري شيمل، فقد ناقشت المجازات المتصلة بالكتاب في الأدب الإسلامي، في بحثها «التورية بالكتب في الآداب الإسلامية»، وتناولت عشق المسلمين الكبير للكتب والأساليب المجازية التي استخدمت فيها الكتب على سبيل التشبيه والاستعارة في مؤلفات الفرس وشعرائهم، مبينة الدور الرئيسي الذي لعبه الكتاب في الشعر الإسلامي. وتناولت الدكتورة وداد القاضي في دراستها «معاجم التراجم... تنظيمها الداخلي وأهميتها الثقافية»، وبيّنت أن هذه المعاجم ليست مجرد أداة أساسية للبحث فحسب، وإنما هي مرآة تعكس جوانب مهمة للتطور العقلي والثقافي في المجمع الإسلامي، كما درست البنية الداخلية لمعاجم التراجم التي ألفت في القرون التسعة الأولى من تاريخ الإسلام وما طرأ عليها من تطوير.

وتتبع رمزي بعلبكي تطور الكتاب النحوي من خلال دراسة ثلاثة مراحل من تاريخ النحو العربي، وذلك في بحثه «الكتاب في التراث النحوي «وبنيت هذه المراحل على كتاب سيبويه، وانتهى إلى أن أصالة سيبويه لم يرق إليها أحد من النحاة الذين أتوا من بعده. وناقش الدكتور صلاح الدين المنجد «دور المرأة في فن الخط العربي»، فتعرض لدور المرأة المسلمة في التعليم، وبيّن مكانة الخط في الإسلام، ودور المرأة في كتابة المصحف الشريف، وذكر عدة نساء تميزن في هذا المجال.

ديفيد كينج تحدّث في بحثه «الرسوم التوضيحية في المخطوطات العلمية الإسلامية عن أهمية الزخارف والتصاوير الموجودة في الكتب، خاصة كتب الفلك، وانتهى إلى أن كثيراُ من الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية الإسلامية تعمّق فهمنا لمختلف العلوم الإسلامية، وتكشف عن جوانب مضيئة للإسلام والحضارة الإسلامية، وقد كانت الكتب المزينة والمزخرفة والمذهبة مرغوبة في العالم الإسلامي من الملوك والأمراء والعلماء، وكانت المكانة الخاصة التي تحظى بها النسخ الخزائنية التي تنسب إلى ملك أو أمير عاملاً مشجعاً للحكام على الاستيلاء على الكتب من مكتبات نظرائهم، ولذا تتبعّت الباحثة برسكيلا سوسك والدكتورة فلز تشغمان سيرة مجلد من هذا النوع محفوظ بمكتبة طوبقابوسراي في اسطنبول وذلك في بحثها : «رحلة مخطوطة ملكية». أما التحول من ثقافة المخطوط إلى ثقافة المطبوع، فيصوّره الدكتور جيوفري روبر في بحثه (فارس الشدياق والانتقال من ثقافة النسخ إلى ثقافة الطباعة). وقد اعتبر فيه أن فارس الشدياق يمثل في سيرته ومواقفه فجر عصر ثقافي جديد للعالمين: العربي والإسلامي، عصر أتت فيه ثورة الاتصالات التي أحدثتها المطبعة بتغيرات جوهرية في الحياة العقلية والسياسية والاجتماعية. وفي مقال جورج عطية عن الكتاب في العالم العربي، عرض لتاريخ نشر الكتب في العالم العربي الحديث، ووصف الاتجاهات العامة لإنتاج الكتب وتوزيعها والسمات التي ميّزت الفترات المختلفة من القرنين الأخيرين، وما كتبه الأستاذ ديل. ف. إيكلمان عن «التوسع في التعليم العالي «يبدو أنه عديم الصلة بتاريخ الكتاب، إلا أنه يتصل به بطريقة غير مباشرة، لأنه يحاول بأسلوب جديد أن يبيّن أثر وسائل الاتصال الحديثة في مجال التعليم. هذه البحوث في مجموعها تشكل لبنة أساسية في صرح الحضارة الإسلامية، وتعد مصدراً مهماً من مصادر المعلومات عن تلك الحضارة، لا يستغني عنه المتخصّصون في التاريخ العام، وتاريخ العلوم والفنون وتاريخ الكتب والمكتبات.

*الكتاب في العالم الإسلامي ـ تحرير: جورج عطية ـ ترجمة: عبد الستار الحلوجي سلسلة عالم المعرفة الكويتية 2003