علم يتجاهله العرب رغم 150 سنة على ولادته

أول كتاب من نوعه بالعربية يدعو إلى جلسات علاج بالقراءة الفردية أو الجماعية

TT

وصفة الطبيب، في السنين القليلة المقبلة، قد تترافق مع لائحة من الكتب ذات المواضيع المحددة، أو أسماء لبعض المقطوعات الموسيقية وربما مطالبة المريض بالتمعن في تفاصيل لوحات تعالج مواضيع بعينها. وإذا كان الأميركيون هم أنشط شعوب الأرض بحثاً وجدية في التعاطي مع هذه العلاجات المساعدة ذات الفعالية، حيث يعود عمر أول مقالة ظهرت حول الموضوع إلى عام 1853، فإن العرب، على ما يبدو ما يزالون في آخر الطابور يقول الدكتور شعبان عبد العزيز خليفة في مقدمة كتابه «العلاج بالقراءة أو الببليوثيرابيا»، الذي يركّز على التداوي بالكتب من دون غيرها من الإبداعات، والصادر عن الدار المصرية اللبنانية ان هذا «هو أول كتاب بالعربية حول الموضوع»، ويوضح في مكان آخر ان ثمة عجالات نشرت، لكنها لم تصل إلى مستوى كتاب متكامل. وبصرف النظر عن ريادة الرجل في التطرق إلى الموضوع بلغة الضاد، فالمثير هو ان الحشرية العربية لم تعمل بالقدر المطلوب للتعرّف على قيمة القراءة في تخفيف الآلام أو حتى القضاء عليها. وها نحن بعد مرور فترة على نشر الكتاب نجده مهملاً مجهولاً، وكأنما لا يقول جديداً يذكر.

وعلى أي حال فإن المؤلف يحاول ان يعرّف بهذا العلم، الذي بدأ يأخذ مكانة تحسب له، بطريقة شمولية، ويقدم للقراء الفضوليين مادة دسمة بالإمكان الانطلاق منها لمزيد من العمل الذاتي، أو التعمق التخصصي.

العلاج بالقراءة، كعلم له أصوله وشروطه، وهو ليس مجرد دعوة مفتوحة لكل المرضى لتناول جرعات من الكتب التي يجدونها في متناولهم، بل على العكس تماماً، فالعلماء يحذرون من اعتباطية التعاطي مع الكلمة المكتوبة، إن بالنسبة لأصحاب الأمراض العضوية أو النفسية، ويطالبوننا باستشارة الطبيب المتخصص. ومن خلال معرفة هذا الأخير بحالة مريضه يستطيع تزويده بتقرير مفصّل يحدد حالته ونوعية الكتب التي يحتاجها، والأهداف التي يتوجب الوصول إليها. ثم ينقل المريض التقرير بعد ذلك إلى مرشد القراءة المتخصص، الذي يفترض فيه انه على دراية دقيقة بالكتب، بحيث يحضّر من خلال بحث متأنٍ لائحة بالعناوين التي تتناسب ووضع المريض أو يزوده بها مباشرة. ويبقى التداول والتنسيق قائماً، خلال فترة العلاج، بين الطبيب الذي يقدّر مدى تطور الحالة والمرشد الذي قد يلجأ إلى تعديل اللائحة، بحسب ما تستدعيه الحاجة، إلى ان يصل المريض إلى برّ الأمان. ويحذر العلماء من قراءات غير مدروسة قد تسيء إلى وضع المريض وتؤدي إلى تدهور حالته، إما لأن المريض لا يملك القدر الكافي من الوعي لفهم ما يقرأ أو لأن اختيارات الكتب كانت غير موفقة، وتسببت بردود فعل سلبية لدى القارئ تجعله يقاوم العلاجات المعطاة له بدل ان يتفاعل معها.

ومن الأمراض التي تعالج بالقراءة حالات القلق، المشاكل الجنسية، ترميم الشخصية، الفوبيا على أنواعها، تعاطي المخدرات، الإنطواء، السمنة، التوتر، إضافة إلى العديد من الأمراض العضوية، التي تسهم القراءة في توعية صاحبها وجعله مدركاً لوضعه وأساليب علاجه والسبل التي تسهم في تحسين حالته. وقد تطور هذا العلم في أميركا، بفضل تقدم علوم المكتبات وتفرع تخصصاتها، وتمفصلها مع تطور مشابه في ميادين التحليل النفسي. وقد استخدم مصطلح ببليوثيرابيا للمرة الأولى عام 1949 يوم نشرت أول نظرية علمية متكاملة في الموضوع، ليشهد عقد الستينات قفزة نوعية على الأرض، لمست نتائجها العملية، في المصحات النفسية والمدارس والسجون ورياض الأطفال والاصلاحيات والمستشفيات. ورغم ان الكثير من الأطباء ما يزالون يفشلون في الإفادة من العلاج بالقراءة، إلا ان عشرات الدراسات التي أنجزت ونشرت في العقود الأربعة المنصرمة تؤكد عل حقيقتين هامتين كما يقول المؤلف: ارتباط الطب فعلياً بالببليوثيرابيا وتزايد ايمان الاختصاصيين بفعالية هذا العلم. وهكذا ترى ان ثمة علوماً يولد واحدها من بطن الآخر، فمن دون التخصصات في علوم المكتبات بتفرعاتها لم يكن علم الببليوثيرابيا ليبصر النور، ومن غير التطبيقات التي أجراها الأطباء على مرضاهم وتوثيق تجاربهم في الدوريات العلمية على مدى عقود، ما كنا لنعرف فعالية القراءة أو وظيفتها. وانتشار المكتبات العامة في المؤسسات الطبية والتعليمية، سهل المضي في التجارب، واختبارها عن قصد أو حتى عن غير قصد. وبات لهذا العلم انصار ومتخصصون وعشاق. ولكن ما يجعل علماً من هذا القبيل صعباً تطويره أو تعميمه في المجتمعات العربية، ومستعصياً الأخذ به ـ ولو أفلحنا في استيراد نظرياته ـ هو وجود سبعين مليون أمي وما يوازيهم ويزيد عنهم من أنصاف الأميين. وكلام من هذا القبيل لا يريد إثباط الهمم، وإنما التأكيد على ان المسير إلى الأمام يتطلب دفعاً من كل الاتجاهات. ويؤكد الدارسون ان قراءة الأساطير القديمة التي استخدمت منذ العصور اليونانية لتعليم الناس الأخلاق والتهذيب، رغم ما تنطوي عليه من رمزية ومعان عميقة، اتضح ـ بعد التجريب ـ ان لا تأثير لها يذكر على المرضى المعاصرين، وعلى العكس منها فقد تمت الإفادة من دواوين الشعر والروايات وكتب الحقائق، والقصص بما فيها قصص الخيال العلمي، وكذلك الكتابات العلمية البحتة، والتاريخ كما الرحلات، وثمة من ينتفع بقراءة الكتب الدينية، ولكل نفسٍ متطلباتها. فقد ظهر مثلاً ان كتب التراجم تفيد بنجاح كبير في رفع درجة الوعي وإيقاظ الضمير عند الكبار، لكن مفاعيلها سلبية عند الصغار. وقد اختبرت القراءة الصامتة، والقراءة بصوت عالٍ، كما جرّبت القراءة للمرضى من خلال أندية للشعر مثلاً. ومن الطرق المستخدمة مناقشة المريض بالمادة التي قرأها إما منفرداً أو في جلسات جماعية يتداول خلالها الآراء والتحليلات مع من لهم أوضاع مشابهة. إذ ان غياب الأخذ والرد وترك القارئ من دون تزويده بالإيضاحات والتعليقات، قد يجره إلى تأويلات غير التي يطمح المعالج إليها. وينصح المعالجون بإعطاء المريض الإحساس الكامل بالحرية، إن لناحية اختيار الكتب التي يريد أو الإفادة منها بالطريقة التي يحب، بحيث تأتي التوجيهات خفرة لا تترك انطباعاً بالتسلط أو النصح المباشر. وقد يكون ما هو أهم من الوظيفة العلاجية لهذا العلم، الذي تبلورت ملامحه بتسارع واضح في السنوات الأخيرة، دوره الوقائي. إذ اتضح ان إعطاء التلامذة في المدارس الكتب التي تتناسب وشخصياتهم كما حاجاتهم الذاتية، والتي تجيب عن أسئلتهم، أو تقوّم المعوج في شخصياتهم، وذلك من خلال معرفة حميمة وذاتية بكل منهم، يساعد إلى حد بعيد في تنمية أشخاص أسوياء يتغلبون على العلل التي قد تتلبسهم قبل تمكنها من نفوسهم.

إن هذا العلم الذي يبدو للبعض ساذجاً أو أقرب إلى التقليعة منه إلى العلوم ذات الأسس المتينة والواضحة المعالم والنتائج يخطئ كثيراً. فالكتاب الذي بين أيدينا، وعلى مدى حوالي 550 صفحة، يؤكد بما لا يقبل الشك ان فعالية الببليوثيرابيا ملموسة ومشجعة. لكن صعوبة تطبيق الببليوثيرابيا، في بلادنا، تكمن في عدم وجود الأطباء الأكفاء الذين يتحلون بالنفس الطويل والإيمان العميق بهذه المناهج، وربما الأصعب هو توافر أمناء مكتبات لهم دراية وثيقة بعلم النفس ومحتويات الكتب في آن واحد، وهذا قد يتيسر بقليل من التخطيط والإرادة. لكن الخطوة الأصعب والأهم، هي إقناع الناس بأن الكتاب كائن يتنفس ويتفاعل ويؤثر وليس مجرد نكرة ترصّ على أرفف المكتبات.