هل هناك حوار بين المثقف ورجل الدين؟

فاضل السلطاني

TT

لا شيء امتع من قراءة حوار بين كاتب ورجل دين. كاتب من الطراز الاول مثل فيليب بولمان ذي ثقافة دينية عميقة، ورجل دين يحتل اعلى مرتبة في التسلسل الهرمي الديني في بريطانيا وهو الدكتور روان وليمز، رئيس اساقفة كانتربري، ذو الثقافة الادبية الواسعة.

وكان كتاب بولمان «ادواته المبهمة» قد تم اقتباسه مسرحيا، وهو يقدم الآن على المسارح البريطانية. وقد احتج رجال الدين على عرض المسرحية لأننا نسيء الى الدين المسيحي، لكن رئيس اساقفة كاتنربري فاجأ كل المؤسسة الدينية في بريطانيا بوقوفه الى جانب عرض المسرحية، ليس لايمانه بحرية التعبير فقط، بل لأنه لم يجد ما يسيء الى الدين لا في الكتاب الاصلي، رغم ان كاتبه ملحد، ولا في المسرحية المقتبسة عنه. والفكرة الاساسية للكتاب هي ان قسما من رجال الكنيسة يتصرفون وكأن الدين المسيحي ملكهم فقط ويقدمون فهمهم لهذا الدين وكأنه الحقيقة الوحيدة. وبالتالي، لقد حاصروه ضمن جدران الكنائس، وصادروه لانفسهم، وهذا ما خلق فجوة كبيرة آخذة بالاتساع بين الناس المؤمنين وبين الكنيسة، وتجسدت، اكثر ما تجسدت، في شكل انعكاس الدين في الاعمال الادبية المعاصرة.

والكاتب يريد بصورة من الصور، ان يعيد جوهر الدين الى الناس، فهو قضيتهم بالدرجة الاولى، ولا يمكن لأية فئة ان تدعي ملكيته، وهو ليس تعاليم فقط تملى من الخارج، بل مسألة انسانية كبرى منذ فجر التاريخ، شكلت المصير الانساني، ولا تزال، لذلك ينبغي تنمية الوعي بها، بدل الاملاء والتلقين.

وهو رأي يتفق معه رئيس اساقفة كانتربري، الذي يثير دائما اتباعه ضده بآرائه المتنورة، واكثر من هذا عبر عن اعجابه بالكاتب بولمان، لأنه كما قال، يقدم شخصيات انسانية عميقة، معذبة بقلقها واسئلتها و«ان تكون دينيا، يعني ان تكون انسانا في العمق».

التقى الرجلان في المسرح الوطني البريطاني، في حوار مطول نقلته القناة التلفزيونية الرابعة ايضا. ولم يبق شيء لم يتناقش فيه الرجلان فيما يخص اشكالية العلاقة الكبرى بين الدين والأدب، وكيف انعكس الاول في الثاني منذ عصر الاغريق، وما هو شكل هذا الانعكاس في الأدب المعاصر.

كلا الرجلين كان مسلحا بسلاح الآخر، سلاح المعرفة الذي يخترق القلب والعقل ويغنيهما بالدفء الانساني. وحوار مثل هذا لا يمكن ان ينتهي، فكلا الطرفين لم يلجأ الى تخطئة الآخر، او قمعه، او وضع سقف للحوار معه بتكرار عبارات جاهزة تعدم اية امكانية للاستمرار، ولم يقل وليمز لمحاوره الملحد ان الحقيقة تكمن في الكتاب الذي يؤمن به، بل اتفق معه ان الحقيقة تكمن في المكتبة، في المعرفة الانسانية التي راكمها البشر بعد قرون من البحث والعذاب.

هذه الحقيقة ينقلها الفن ليس على شكل رسالة، كما في الأدب السيئ، بل من خلال العالم الواسع الذي ترسمه الاعمال الكبيرة الباقية التي صنفت ضمن الأدب الديني كما في اعمال ملتون الشعرية، كلاسيكيا، او حديثا في اعمال الروائية الاميركية فلانري اوكونير، وفي قصائد الشاعر الويلزي آر. اس. توماس اللذين يستشهد بهما رئيس اساقفة كانتربري كثيرا.

والمغزى الكبير الذي يريد ان ينقله هؤلاء الكتاب، كما يقول، هو ان يعلمونا كيف نكون بشرا والشرط الأول لأن نكون بشرا هو ان ننفتح على العالم الذي نعيش، ونفهم الوسط الذي نولد فيه، ونقرأ الماضي الذي ورثناه قراءة واعية حتى نستطيع ان نمتلكه لا ان يمتلكنا للأبد. وبهذا المعنى، يلتقي الكاتب ورجل الدين، والأدب والدين، وتلتقي كل الأديان، فالهدف هو واحد: الانسان، مهما تعددت وسائل الوصول اليه، ولا بد ان تتعدد، وتتنوع وتتناقض مثل اية ظاهرة في الكون، لكنه تعدد متنوع وتناقض يغني الوحدة الانسانية، التي تسعى اليها البشرية منذ فجر التاريخ، وما التعصب الاعمى والصدام الطائش، والتطرف البغيض إلا استثناءات في هذا التاريخ تؤكد القاعدة.