هل ينتمي الشيشان إلى فصيلة خاصة من الجنس البشري؟

يتعين على المسلمين الذين قرأوا مئات الكتب عن فلسطين أن يجدوا وقتا لقراءة كتاب واحد على الأقل عن الشيشان أيضا

TT

الولايات المتحدة تريد دفع الشيشان الى مؤخرة قائمة اهتماماتها لأنها في حاجة الى تأييد روسيا في «الحرب ضد الارهاب». والأمر الاكثر إثارة للاهتمام هو ان الدول المسلمة تريد ايضا ان يتبخر نزاع الشيشان في مجاهل النسيان. فقد قررت قمة منظمة المؤتمر الاسلامي العام الماضي اعتبار النزاع الشيشاني «مشكلة روسية داخلية» ووجهت القمة الدعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحضور مؤتمر القمة الذي انعقد في كوالامبور حيث استقبل استقبال الابطال.

ما هي البلاد التي قتل جيش أجنبي العدد الأكبر من مسلميها في التاريخ الحديث؟ وما هي الأمة المسلمة التي قاتلت لمدة قرنين لإخراج المحتلين الأوروبيين من أراضيها؟

الجواب في الحالتين هو الشيشان. وما يعرف الآن بجمهورية الشيشان ذات الحكم الذاتي، وهي جزء من الفيدرالية الروسية، ليست سوى جيب أرضي لا يملك منفذا للبحر بشمال القوقاز، وكان جزء من مساحة شاسعة انتزعتها روسيا في القرن الثأمن عشر، من إمبراطوريتين إسلاميتين هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفارسية.

ولكن ضم الاراضي الإسلامية في القوقاز من قبل الروس لم يكن عملية سهلة بل لم يتحقق لروسيا إلا بعد سلسلة من الحروب. وقد زعم لينين أن هزيمة الجيوش القيصرية في الحرب العالمية الأولى، وإتاحتها الفرصة بالتالي، لانتصار الثورة البلشفية، كان نتيجة للإرهاق الذي لحق بها من حرب استمرت عدة عقود في القوقاز. وكانت تلك الحرب من أكثر الحروب دموية في تاريخ الإمبريالية الأوروبية.

ولكن النتيجة المثيرة للعجب هي أن روسيا تمكنت، بمرور الزمن، من تطويع كل شعوبها المسلمة، تقريبا، إما بالقمع السافر أو عن طريق الاستيعاب الثقافي والاحتواء السياسي. نقول «تقريبا» لأننا نستثني بلاد الشيشان التي لم تقهر ولم تستوعب. ومع أن الجنرال، إيرمولوف، الذي عرف بجزار القوقاز، قد أسال نهرا من الدماء الشيشانية، إلا أنه فشل في إخضاعها. وفي عام 1944 قام ستالين بترحيل شعب الشيشان كله إلى كازاخستان. ولكنهم عادوا بعد موته وأقاموا جمهوريتهم من جديد ورفعوا أعلام التمرد والثورة. حب الشيشان للحرية وروح التمرد والثورة السائدة وسطهم، شهد عليها كثير من الأدباء الروس. وكان بوشكين وليرمنتوف، وفوق ذلك تولستوي، يكنون إعجاباً قريب من الرهبة، لهؤلاء الشيشان. ولم تكن رواية تولستوي الخالدة «الحاج مراد» سوى تمجيد لشجاعة الشيشان وحبهم للحرية. وتساءل هيرزن مما إذا كان الشيشان ينتمون إلى فصيلة خاصة من الجنس البشري. وأثناء الفترة التي قضاها بالغولاق أرخبيل، وهو سلسلة من السجون الروسية، التقى سولجنتسين باشخاص من 150 قومية محتجزين هناك. وقال إن الوحيدين الذين لم ينكسروا من بين هؤلاء كانوا هم الشيشان. ويذكر سولجنتسين، القومي الروسي بامتياز، أن صمود الشيشان حفزه على المقاومة والصمود حفاظا على الشرف الروسي.

كما أن أنا بوليتكوفسكايا، ألهمتها كذلك الرغبة في الحفاظ على «الشرف الروسي». ودعونا نعترف بذلك منذ البداية، فقد نجحت في الحفاظ على شرف أمتها بصورة فاقت كل التوقعات. وكانت بوليتكوفسكايا قد سطع نجمها في سماء الصحافة الروسية لما بعد الحقبة الشيوعية، عندما طلب منها قبل عقد تقريبا، أن تغطي الحرب في الشيشان. وعلى غير عادة الصحافيين الذين ذهبوا إلى هناك بحثا عن سبق صحافي، أو حتى جائزة صحافية، انتبهت بوليتكوفسكايا منذ البداية إلى أن هناك ما هو أعمق من كل ذلك. ومع مرور السنين، تكاثرت زياراتها إلى المنطقة حتى أصبحت كالمقيمة في هذه الارض التي مزقتها الحروب. وكثيرا ما تركت وراءها زوجها وأولادها، الذين تفهموا دوافعها العميقة: « لتكون هناك، كي ترى الاشياء » بعينيها. وقد زارت بوليتكوفسكايا التي تراسل «نوفايا غازيتا» «المجلة الجديدة»، الواسعة الشهرة، جمهورية الشيشان أكثر من 40 مرة منذ عام 1999. حاولت السلطات الروسية في بداية الأمر تجاهل تقارير بوليتكوفسكايا التي صورت أفراد الجيش الروسي وهم يقتلون ويغتصبون وينكلون بشعب اعزل، إلا ان عمل بوليتكوفسكايا بدأ يترك اثره على الرأي العام الروسي. من المؤكد ان روسيا لم تصبح بعد ديمقراطية من النوع العادي الذي يشكل فيه الرأي العام رقما مهما وحاسما. ومع ذلك، ليس هناك شك في ان قطاعات واسعة من الشعب الروسي تشعر بعدم ارتياح ازاء حرب لا يفهمون لها مبررا ولا منطقا. جربت السلطات الكثير من التكتيكات بغرض إسكات هذه الصحافية الجريئة، مثل ترويج شائعات حول صحتها العقلية والزعم بأنها اصبحت مرتبطة بـ«الارهابيين الشيشان»، كما كانت هناك محاولات لشراء صمتها. إلا ان بوليتكوفسكايا نجت من كل هذه المخططات. ثم عرض عليها حتى السفر الى الولايات المتحدة والعمل بالتدريس في واحدة من الجامعات او الانضمام الى احد مراكز البحوث حيث يصدر من يتقاضون مرتبات جيدة اوراق بحثية لا يقرأها أحد.

وفي العام 2001، نظمت اجهزة الاستخبارات الروسية حملة لتشوية سمعة بوليتكوفسكايا من خلال سلسلة من الخطابات المجهولة وقع احدها باسم «ضباط يحاربون الارهاب». نشرت بوليتكوفسكايا خطابا مفتوحا قالت فيه «ان الذين ارسلوا اليها هذا الخطاب لا يملكون الشجاعة حتى لكتابة اسمائهم واخفوا هويتهم» فيما تخاطبهم هي بوجه مفتوح. بدأ خطابها كما يلي: «اسمي آنا بوليتكوفسكايا واعمل في نوفايا غازيت. لم يحدث ان استخدمت اسما مستعارا ولم اخف هويتي، على العكس من الضباط الروس في الشيشان الذين يخفون وجوههم بأقنعة سوداء ويخفون رتبهم واسماءهم ومواقعهم».

تبع ذلك توجيه تهم للقادة العسكريين الروس عندما قدمت بوليتكوفسكايا قائمة تضمنت جرائم حرب ارتكبت في الشيشان، مثل عمليات الترحيل الجماعي التي اسفرت عن إبعاد نصف سكان الشيشان عن ديارهم والاعدامات الجماعية، كما كشفت بوليتكوفسكايا عن إعدام 150 مدنيا شيشانيا بواسطة القوات الروسي بدون محاكمة. كتاب بوليتكوفسكايا لا يركز على تحليل اسباب النزاع، اذ تركت هذا الجانب للمؤرخين وخبراء مجال العلاقات بين روسيا والشعوب المسلمة. فقد ركزت في الاساس على هذه الحرب التي يأمل الكثيرون على نسيانها. المواطن الروسي العادي يرغب في انتهاء الحرب لأن هؤلاء يعتقدون ان نهاية هذا النزاع تعني نهاية للعمليات الارهابية التي راح ضحيتها مئات الاشخاص في مختلف المدن الروسية بما في ذلك العاصمة موسكو. الاوروبيون ايضا يريدون ان ينسوا حرب الشيشان لأنهم لا يستطيعون الاعتراف بأن روسيا صديقتهم يمكن ان تكون متورطة في مثل الممارسات والاعمال التي توردها بوليتكوفسكايا في تقاريرها. الولايات المتحدة تريد من جانبها ايضا دفع الشيشان الى مؤخرة قائمة اهتماماتها لأنها في حاجة الى تأييد روسيا في «الحرب ضد الارهاب». الأمر الاكثر إثارة للاهتمام هو ان الدول المسلمة تريد ايضا ان يتبخر نزاع الشيشان في مجاهل النسيان. فقد قررت قمة «منظمة المؤتمر الاسلامي العام الماضي اعتبار النزاع الشيشاني «مشكلة روسية داخلية» ووجهت القمة الدعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحضور مؤتمر القمة الذي انعقد في كوالامبور حيث استقبل استقبال الابطال.

المنطق وراء هذا السلوك المريب هو ان الكثير من الدول المسلمة يعتقد ان القضية الوحيدة التي تستحق هي القضية الفلسطينية وأن قضايا اخرى مثل تدمير الشعب الشيشاني من المحتمل ان تبدد الطاقات وتصرف الانظار عن القضية الفلسطينية التي ظلت روسيا تؤيدها باستمرار. تدرك بوليتكوفسكايا ان لا مجال لتأييد هذه الحرب. اما بوتين، الذي فاز لتوه بفترة رئاسية ثانية، فقد بنى شخصيته بكاملها على اساس مزاعم «النصر الكامل» في الشيشان». العالم الغربي، الذي افزعته العمليات الانتحارية في عقر داره كما حدث في هجمات مدريد الاخيرة، لا يرغب في الاستماع الى ما يعتبره كابوسا روسيا. مهما يكن من امر، فإنه من الصعب بالنسبة للمواطن الغربي العادي التمييز بين اسلوب ارهابيي «القاعدة« والمواطنين الشيشان الذين يقاتلون من اجل حريتهم وحقوقهم. وكما اشرت، فإن المسلمين ينشغلون فقط بالقضية الفلسطينية التي لا تترك مساحة لـ«القضايا» الاخرى مثل القضية الشيشانية. لماذا اذن، خصصت بوليتكوفسكايا حياتها لما يبدو انها قضية خاسرة؟

يوجد ثلاثة اسباب على الاقل.

الاول ان بوليتكوفسكايا تعتقد اعتقادا راسخا بإن قضية الشيشان لم تضع. وتعترف بحقيقة انه لا يوجد شخص، ولا حتى الدول الاسلامية يؤيد الشيشان. ولكنها تتذكر حقيقة ان ذلك كان الوضع على الدوام. لقد حارب الشيشان وحدهم دائما. وعندما هجر الشيشان لم يرتفع صوتا واحدا بالاحتجاج. ان استراتيجية الشيشان، وهو الامر الذي ربما اصبح جزءا من جينات الامة، كانت دائما القتال من منطلق عدم وجود اصدقاء واعداء.

والسبب الثاني وراد عدم اعتراف بوليتكوفسكايا بأن مهمتها هي محاولة يائسة لتغيير سياسة موسكو، هو انها مهتمة بتأثير حرب الشيشان على النفسية الروسية. وقد اظهرت انه لايمكن لروسيا ان تصبح مجتمعا ديمقراطيا حقا يعتمد على حكم القانون الا اذا اعترف بحق الشيشان في تقرير المصير. والرسالة بسيطة: دولة يداها قذرة لا يمكنها بناء مجتمع نظيف.

والسبب الثالث والاخير، وربما اكثرها اهمية، بالنسبة لاصرار بوليتكوفسكايا هو انها تعتقد ان تدمير الشيشان يمكن ان يشجع فلاسفة «صدام الحضارات» في الغرب الى الاعتقاد بأن الاستراتيجية الواقعية الوحيدة للتعامل مع ما ينظر اليه على انه مضايقات اسلامية هو استخدام القوة الغالبة.

وهذه نقطة ذات اهمية قصوى. فقد اظهرت بوليتكوفسكايا عدم وجود اسباب منطقية للحرب الثانية الشيشان، التي بدأها هذه المرة الرئيس بوتين. فقد وقع رئيس الشيشان المنتخب اصلان مسخدوف اتفاقية مع الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين يلتزم فيها الطرفان على تطوير علاقتيهما في اطار جديد من السلام والتعايش.

وقد تحدى هذه الاتفاقية انصار الشوفانية الروس في الكرملين بينما اتهمت مجموعة صغيرة من الراديكاليين الاسلاميين بقيادة شامل باشييف مسخدوف بـ«الخيانة». وعندما بدأت جماعة باشييف، التي ربما تكون لها علاقة بطالبان في افغانستان، حملة للارهاب ضد حكومة مسخادوف في غرونزي فإن المسار المنطقي لموسكو هو مساعدة الرئيس المنتخب للشيشان وحكومته.

وبدلا من ذلك نظر بوتين الى الموضوع باعتباره ذريعة لاصدار أوامره بغزو الشيشان ثانية. وهكذا فان مسخادوف ومعه أغلبية الشيشانيين وجدوا انفسهم بين سندان عصابة بساييف ومطرقة جيش بوتين. وفي المرحلة اللاحقة من الأزمة بات من الواضح أن موسكو كانت ترغب في استبدال رئيس وحكومة الشيشان المنتخبة بدمى روسية من المستعدين للتخلي عن جميع الطموحات بعد تحقيق الحكم الذاتي ناهيكم عن الاستقلال الكامل. هل يمكن للشيشان أن تكون نموذجا للعلاقات بين العالم الاسلامي والغرب الذي تبقى روسيا، رغم خصوصياتها، جزءا رئيسيا منه؟

ان جواب بوليتكوفسكايا الضمني هو النفي القاطع.

ورسالتها بسيطة: لا يتعين على أية حضارة أن تفرض نموذجها على الآخرين بالقوة. ذلك انه بهذا العمل فان الحضارة العدوانية تدفع الى شكل من البربرية بحيث تبعد نفسها أخيرا عن انسانيتها.

في كتاب بوليتكوفسكايا نلتقي بكثير من الضباط والجنود الروس ممن تحطمت حياتهم بسبب تورطهم في أعمال التعذيب والمذابح الجماعية والتطهير العرقي. وكان بعضهم يعاني من الانهيارات النفسية التي أدت بهم الى مستشفيات الأمراض العقلية. أما الآخرون فقد فقدوا ببساطة «الاحساس بالعيش». كما نرى بعضا من العوائل الروسية ممن فقدوا أحباءهم في هذه الحرب التي لا معنى لها وهم يواجهون حياة عقيمة في ظل المأساة. وما من أحد يظهر وهو غير متأثر بهذه الحرب وغالبا ما يكون من الصعب رؤية ما يعنيه بوتين عندما يتحدث صارخا عن «النصر» في الشيشان. فالعاصمة غروزني مليئة بالركام بينما تبدو المئات من القرى الشيشانية مثل مخابئ أشباح. وفي البلاد مقابر جماعية بينما يعيش نصف السكان في ظروف بائسة في مخيمات اللجوء بأنغوشيا المجاورة. في نهاية الالياذة يقدم هوميروس ما يجب أن يكون التصوير الأكثر ترويعا للحرب في الأدب الغربي. فأخيل، بطل الأغريق المنتصرين، يتحدث الى بريام، ملك طروادة المخلوع، ووالد البطل القتيل هكتور. وبينما تحترق طروادة في الخلفية يقول أخيل مخاطبا بريام: سمعت أنك، أيها الشيخ، كنت يوما ما سعيدا أيضا! وقد التقت بوليتكوفسكايا الكثير من الشيوخ الذين كانوا سعداء يوما ما. ليس هناك منتصرون في الحرب، والمنتصر، كما تجادل بوليتكوفسكايا، وهو في هذه الحالة روسيا، قد يظهر باعتباره الخاسر الأكبر لأنها فقدت مجدها سعيا وراء مشروع اجرامي.

وقد ترجم كتاب بوليتكوفسكايا الى التركية أخيرا. ولكنه يستحق الترجمة الى العربية والفارسية أيضا. ويتعين على المسلمين الذين قرأوا مئات الكتب عن فلسطين أن يجدوا وقتا لقراءة كتاب واحد على الأقل عن الشيشان أيضا.

* العار الروسي

* المؤلفة: أنا بوليتكوفسكايا

* الناشر: بوشيه/ ـ فرنسا