إشكاليات السياسة والحداثة في مجتمع ما بعد سبتمبر

الباحث المصري نبيل عبد الفتاح في كتابه الجديد يحلل المصطلحات ودلالاتها تحت مظلة العولمة الأميركية والغربية

TT

يكشف الباحث نبيل عبد الفتاح في كتابه «سياسات الأديان ـ الصراعات وضرورات الاصلاح» والصادر حديثا عن مركز مريت بالقاهرة، الاقنعة التي تتستر وراءها منظومة السياسة الدولية الجديدة، وتتخذ من الادوار المختلفة للدين وسلطاته ومؤسساته دافعا لاحداث التغيير السياسي في بعض الدول والمجتمعات لتساير خرائط العلاقات الدولية في ظل قوة العولمة الأميركية ومن هذه الاقنعة قناع علاقة الاسلام بالحداثة، وبالديمقراطية وغيرها من اقنعة ضرورات الاصلاح وفق النظرة الأميركية والغربية. كما يتناول الكتاب من هذا المنطلق اشكاليات الحداثة في عالم العولمة، ومشاكل وازمات الاندماج القومي في السياقات العولمية والاقليمية والمصرية.. وغيرها من القضايا.

يقع الكتاب في نحو 700 صفحة من القطع الكبير ويستهله الباحث بتحليل مصطلح ما قبل 11 سبتمبر، وما بعده ويرى انه مفيد وذو دلالة في عملية تحليل الحدث الذي دمر رموز القوة الأميركية والذي كان يجب ان يفتح الابواب المقفلة على اسئلة مختلفة ومراجعات جذرية الا ان هذا لم يحدث فقد ظلت اللغة والمفاهيم وأشباه الاجابات كما هي. ويرى المؤلف انه بعد هذا الحدث الجوهري تمت تعرية بقايا ازمة المؤسسات الاكاديمية والبحثية في ظلب غياب جماعة متخصصة في امور شرق اسيا (ايران واليمن) والجزائر والسودان ثم الولايات المتحدة، واوروبا الغربية مما خلق عدة ظواهر منها التركيز على نفي المسؤولية العربية عن الحدث عبر التحجج بأن الامكانات العربية التخطيطية والتنفيذية متخلفة.

ويؤكد نبيل عبد الفتاح ان الذين نفوا المسؤولية العربية تجاهلوا مرجعيات كثيرة منها الحرب الاهلية اللبنانية وعمليات نيروبي ودار السلام وتفجير السفارة المصرية في باكستان والمدمرة كول وتفجيرات الخبر، وتفجيرات تونس وبالي وغيرها حيث نجد قمة التخطيط، وبروز ملكة الخيال العربي.

ويلاحظ عبد الفتاح ان الخطاب السياسي والديني الرسمي لم يغادرا موقعهما الدفاعي بنفس اللغة القديمة والخطاب القديم وكأنه منتج الخطاب ومستهلكه بالاضافة الى هيمنة نمط من التذوق اللغوي التقليدي يربط بين البلاغة ولغة كبار العلماء والمفسرين، وغلبة استراتيجية ادلجة اللغة الشرعية والوعظية واعتبار البعض ان اللجوء الى رحم مرجعي فقهي وشرعي بمثابة ملاذ آمن، واتقاء قدسية على اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن.

ويتناول الكتاب الحركات الراديكالية التي أثرت على مجمل الحركات والتيارات الاسلامية الاخرى مما دفعها الى مزيد من الغلو والتشدد، ويلاحظ انها ركزت على شكلانية الاداء وسيادة الطابع الطقوسي مما ادى الى هيمنة الطابع الاستعراضي وهو ما ساهم في اهمال خطاب الحرية. ويسم عبد الفتاح النخب السياسية بالاستغلال، اذ انها استغلت الاديان في خدمة اهدافها واستطاعت توظيفها في النزاعات الدولية، وفي الحروب الباردة وفي الصراع البوسني وحرب الشيشان والحرب ضد طالبان والقاعدة والصراع العربي الاسرائيلي وفي بناء الهويات المتنازعة في المجتمعات الشرق اوسطية الممزقة على اسس مذهبية وعرقية كما في لبنان والعراق. ويرى نبيل عبد الفتاح ان الدين عموما لعب دورا هاما في ابراز مكونات تأسيس الهوية الشخصية والجماعية ولعب دور الاطار الدفاعي ازاء الضغوط السياسية الوافدة عبر الاحتلال الاجنبي والانساق التعليمية، كما لعب دور المعبئ في عمليات الكفاح القومي في حالة الاحتلال، كما انه لعب دورا في التمهيد للمدنية الحديثة.

ويقدم الكتاب اطارا عاما للاصلاح في مصر متمثلا في اعادة هيكلة الابنية السياسية والدينية والاعلامية والاجتماعية وتفعيل ميثاق الشرف الصحافي واعداد برامج تدريبية حول الاديان وبرامج حول دولة القانون والمواطنة وتفعيل الدور الوقائي لنقابة الصحافيين وتشجيع مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، كما يجب ان يكون للازهر ـ كما يطرح الكتاب ـ دورا خاصا في مواجهة الحركات الاحتجاجية ويجب ايضا استعادة اللقاءات الاسلامية المسيحية.

ويتتبع الكتاب تاريخ ودعوات ومبادرات الاصلاح والتجديد ويشير الى انها جاءت جزءا من اسئلة الحداثة بل وانعكاسا في بعض جوانبها للهندسة القانونية والسياسية والتعليمية التي استعارتها من الاطر المرجعية الفلسفية والتنظيمية وانماط الحياة في المجتمع الغربي وهو ما ساهم في خلق تحد للمؤسسة الدينية والازهرية وجماعات علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم بما طرحته أسئلة الحداثة من مفاهيم قانونية ومناهج في تأصيل النظيم القانونية وبيان الحق في القانون الدستوري ونظريات القاعدة القانونية والقانون الدولي العام والخاص وهو ما ارتبط بعمليات نشوء الدولة القومية وخلق اسئلة الهوية التي كانت جزءا من مجالات العقل الفقهي والوعظي والافتائي بل والسياسي.

ويؤكد المؤلف ان اتساع الهوة بين انماط الحياة المعاشة وبين انماط التفكير الديني وبين التحولات العولمية القارية ادى الى القاء اعباء وهموم جديدة على كاهل الانسان العولمي، وهو ما اثقل الوعي الشخصي والجماعي للنخب المثقفة ما خلق ازمة حادة واحتقانات عديدة سواء على صعيدي الاندماج القومي أو الاصلاح السياسي والاجتماعي.

ومن ثم فإلقاء نظرة عابرة ـ كما يقول نبيل عبد الفتاح ـ على مشهد انتاج الكتابة والخطابات واستنتاج النصوص حول الدين الاسلامي سوف يجعلنا نكون انطباعا فوريا بأن هناك ازمة في الشفاهي والانشائي واضعاف النزعة الاجتهادية وغياب روح التفقه الرصين، والميل الى الحفظ وتلقين المتون القديمة وتكرارها مما يولد النمطية وغيرها وهو ما يؤدي الى عدة ظواهر تمثل المشهد الكلي لانتاج الخطابات حول الفكر الديني. وفي تصور المؤلف فان الجماعات الاسلامية بشقيها الراديكالي والسياسي تغلب على اطروحاتها التوظيفات السياسية للفقه الديني، وبعضها يأتي بحجج شرعية ضد رموز الدولة، كما ان خطابات الجماعات الاسلامية يتداخل فيها الايديولوجي والسياسي والفقهي في تناصات أو تخمينات هدفها التسويغ الشرعي أو الفقهي لاطروحات هذه الجماعة أو تلك، كما ان الانتاج الفكري والفقهي الخاص بالجماعات الراديكالية يولد داخل حركات سرية سواء في التكوين أو التنظيم وهو ما ينعكس على اعادة انتاج وتركيب بعض الاراء والاستنتاجات التي تنتج بعيدا عن التداول حيث الاحتكام الى معايير اصول الحكم أو اصوب الآراء الفقهية أو العقلانية أو خطاب تبرير بعض انماط السلوك الذي تمارسه الجماعة. ويعرف عبد الفتاح العنف اللغوي بأنه توظيف المعايير الاكثر قوة في الحكم على المخالفين أو في اضفاء الاحساس بالقوة المعنوية التي تسعى لتغيير جذري للنظام السياسي وللنخبة، والى توليد دعم نفسي واسع لكوادرها هو ما ادى الى تغيير واسع في عقدي الثمانينات والتسعينيات.

ويرصد الكاتب هذا في اعتماد النظام السياسي على المؤسسة الازهرية الرسمية في دعم خطابها وتوجهاتها في مواجهة الحركات الراديكالية، وعدم استطاعة المؤسسات الرسمية تجاهل الخطاب الديني لجذوره القوية، وانتقاد بعض القوى السياسية الاسلامية، وهو ما دفع بعض قادة المؤسسة الى التشدد أي نقد المؤسسة «مثل نقد الشيخ عمر عبد الرحمن لشيخ الازهر».