توقعوا له الموت بعد ثلاث سنوات لكنه أصر على البقاء

يروي مؤلف هذا الكتاب الأستاذ في جامعة أوكسفورد مثابرته للبقاء على قيد الحياة رغم الأطباء

TT

تتوقف الطريقة التي يتعامل بها الناس مع المحن التي تنزل بهم على شخصياتهم والطبيعة التي نشأوا عليها. وأشد ما يخشاه المرء أن يضطر يوماً إلى مواجهة مرض قاتل يتهدد حياته ويضعه في موقف يستحيل التكهن بطبيعة رد فعله عليه. في شهر حزيران من عام 1994 كان على مؤلف هذا الكتاب مايكل جيرن ـ توش ان يواجه موقفاً من هذا النوع عندما اخبره الاطباء بأنه مصاب بسرطان نخاع العظم، وقالوا له ان فرصته في البقاء على قيد الحياة لا تتجاوز الثلاث سنوات مع العلاج الكيمياوي، وبضعة شهور فقط في حالة رفضه الخضوع لذلك العلاج. لم يكن امام جيرن ـ توش الكثير من الاختيارات، وكانت حياته هي الثمن الذي يمكن ان يدفعه في حالة اقدامه على اتخاذ الخيار الخطأ. في مثل هذا الموقف، لا توجد الا قلة قليلة من البشر التي تبدأ بطرح الاسئلة حول حكمة الاطباء الذين سيتولون العلاج، والأسس التي استندوا اليها في اصدار حكمهم. لكن جيرن ـ توش كان واحداً من تلك القلة. وقد اختار تلك الايام الحرجة من حياته بالذات ليبدأ تقصيه لمدى حكمة الاطباء وعلاجهم. وكان الغرض من مسعاه هو الحصول على فرصة للبقاء. وقد امتدت استطلاعاته لتشمل قارات مختلفة، وتوغلت عميقاً في بحار من المعرفة المتضاربة المتوفرة عن مرضه وقادته في النهاية الى تساؤلات تخص اسس الحكمة الطبية المعاصرة.

عندما يكون المرء مطالباً باتخاذ قرار صعب، يكون من الحكمة النظر في جميع الاختيارات المتوفرة. ويأمل المرء، في هذه الحالة، في التوصل الى الاجراء الافضل عن طريق استبعاد الاختيارات الادنى جدوى والاقل اثراً. لكن المذهل في هذا الكتاب ان الكاتب قد تصدى لتحدي الاختيار الذي كان معظم القراء سيعتبرونه الطريقة الوحيدة لمعالجة السرطان الا وهو العلاج الكيمياوي. وتزداد دهشتنا عندما نلمس ان ما صدر عن المؤلف ليس مجرد نزوة رجل مصاب بداء عضال يحاول ان يتشبث بالأمل الأعمى الذي يمكن ان يحصل عليه عن طريق ما يسمى بـ«الطب البديل». وقد قدم عدد من الاطباء المحترمين والخبراء واسعي المعرفة الدافع والدعم اللذين احتاجهما جيرن ـ توش للبحث عن بدائل للعلاج الكيمياوي الذي كان سيقضي عليه عاجلاً ام آجلاً. ومع تقدم المؤلف في بحثه واستطلاعاته، يتوصل الى مزيج من الاجراءات والممارسات التي تساعده على كبح الاثار المدمرة لمرضه. من بين تلك الممارسات الطريقة الصينية في التنفس، واستخدام الابر الصينية، والتقيد بالحمية الصارمة، واستخدام حقن القهوة الشرجية كبديل للمعالجة الكيمياوية. وهو يشير في النهاية الى ان بقاءه على قيد الحياة وقيامه بنشر هذا الكتاب المشوق ليسا سوى الدليل القاطع على صحة اختياره.

يشغل مايكل جيرن ـ توش منصباً تدريسياً في جامعة اوكسفورد. ولعل هذه الخلفية هي التي منحت كتابه الحجة المتوازنة التي تحلى بها. ان الكتاب ليس دعوة لجميع المصابين بالمرض نفسه كيما يتخلوا عن العلاج التقليدي ويتبعوا خطاه، ولا هو بالحكاية المؤثرة عن الكيفية التي يمكن للإيمان والثقة ان يساعدا بها المرء على تجاوز محنته. إنما هو سرد لمثابرة رجل عقد العزم على الكفاح من اجل البقاء على قيد الحياة. أما ما أسفر عنه ذلك الكفاح فهو علامة استفهام كبيرة تتعلق بالمواقف التقليدية من الطب، والى حد ما بالممارسات الطبية نفسها، اضافة الى اثبات واضح لما يمكن للتشكيك السليم ان يكشف عنه من حقائق. لدينا هنا رجل يدافع بقوة عن حق كل مريض باتخاذ الاختيارات المبنية على المعرفة عندما يتعلق الامر بصحته او مرضه. ومن الامور التي تحول دون تحقيق ذلك عدم توفر السبل التي تقود الى مثل هذه المعرفة بما فيها معرفة المريض نفسه بالنتائج والفحوص الطبية التي تجرى له. ولا يبدو الوصف الذي يقدمه المؤلف لمشاهد الاستفسار في عيادات الاطباء والاخفاق في الحصول على اجابات مقنعة غريباً على الكثيرين ممن خبروا مثل هذه الحالات.

من بين الحجج القوية التي غذت تمرد جيرن ـ توش على العلاج الطبي المقترح له معرفته المؤكدة بمضار العلاج الكيمياوي. فهذا النوع من العلاج لا يقدم شفاء. بل ان الطريقة التي يتناوله بها في كتابه تكاد ان تقنع القارئ بأنه على العكس من ذلك تماماً، فهو طريقة لقذف الجسم بمواد شديدة السمية، ويجادل جيرن ـ توش بأن أثر هذه المواد السلبي لا يقتصر على المناطق المصابة من الجسم بل يشمل المناطق السليمة ايضاً. فلماذا، اذن، لا نستبدل العلاجات المضرة التي يمكن ان يتجاوز اثرها المدمر المناطق السرطانية بعلاجات اخرى ذات اثار ايجابية تشمل الجسم كله وتوقف بهذه الطريقة تقدم المرض. فالجسم ليس سوى وحدة متكاملة. وما تستهلكه اجسامنا يؤثر على كل عضو فيها تماماً كما تعمل الطريقة التي تدرك بها نفسياتنا الاحداث على طبيعة ودرجة سلامتنا العقلية.

والكتاب لا يضم رواية جيرن ـ توش عن الطريقة التي تعامل بها مع مرضه فحسب، بل ان فيه الى جانب ذلك الكثير. فهو كتاب متعدد الوجوه يضم ملاحظات وتعقيبات لأطباء واكاديميين، اضافة الى تناول المؤلف نفسه لموضوع البقاء وما الذي يعنيه نجاحه في قهر المرض لحد الآن وما يثبته ذلك النجاح وما لا يثبته من حقائق علمية يعلق عليها اخصائي بمعالجة السرطان اتسعت دفة الكتاب لتشمل مطالعته ايضاً التي وضحها على ضوء تفاصيل الحالة المرضية للمؤلف وتطوراتها. ومن مزايا هذا الطرح انه يقدم مادة الكتاب على مستويات متفاوتة يمكن ان يفيد منها القارئ المتخصص والعادي حيث يستطيع كل منهما ان يجد المنظور الذي يلائمه ويساهم في اغناء معلوماته، كما يمتاز الكتاب بجودة طرحه وسعة تناوله وهو يفاجئ القارئ بما يمكن لمثل هذا الموضوع الذي يتناوله ان يتحمله من التفاتات ذكية واسلوب بهيج.

اخيراً يذكرنا المؤلف بأن سرطان نخاع العظم ليس بالمرض الذي يمكن ان يزول من الجسم، كما ان الكثير من العواقب التي تتركها الاصابة به غير قابلة للاختفاء. لكن معايشة مرض خطير من هذا النوع وتفهمه على النحو الذي حققه جيرن ـ توش يظلان مصدر دهشة القارئ وإعجابه. فالكتاب يروي حكاية نوع خاص من التمرد لم يخضه صاحبه بالسلاح او القوة انما هو تمرد العقل والقناعة ورفض القبول بالمواقف الجاهزة والمتعارف عليها. وهذا الموقف المذهل وغير المألوف هو الذي ميز الكاتب واثرى الكتاب وخلب لب القارئ. فالمعركة التي تطالعنا هنا لا تدور بين المقبول وبدائله أو بين التزمت والمغامرة. إنما هي دعوة مفكر ومثقف لفهم المزيد عن كل شيء يخصك حتى لو كان ذلك الشيء أمراً سلم به الجميع واعلنوه قدراً لا مفر منه. كما يثير الكتاب قضية انسانية وفكرية جديرة بالاهتمام تتمثل في السبب الذي يجعلنا نطلق مسميات معينة على حالات معينة ثم نرضى بها كما لو كانت حكماً نهائياً. أليس من الممكن التعامل مع المواقف الخطيرة بأكثر من طريقة واحدة، أو على الاقل بالجمع بين أكثر من مفهوم ومنطلق؟ ولماذا يكون على اية وجهة نظر معينة ان تستثني سواها من وجهات النظر الاخرى ولا تترك مجالاً للشخص المعني بأن يجمع بينها وبين غيرها ما دامت تلك الوجهات أو الآراء تخدم، في النهاية، الغرض نفسه؟

وأخيراً، فإن الكتاب لا يكتفي بهذا السرد المثير لتجربة رجل امتلك من الشجاعة والقوة ما يكفي لوضع المؤسسة الطبية بكاملها موضع المساءلة. فهو يقدم، ايضاً، الامل للآخرين والفائدة لأمثاله من المصابين عن طريق وصفه التفصيلي للنظام الصحي الذي يمكن ان يحقق له ولهم الكثير من الوقاية.

ان المؤلف لا ينكر المعجزات التي يحققها الطب الحديث لكنه يدعونا الى ان نترك هامشاً لعقولنا وأرواحنا تساهم بدورها في العناية بصحة ابداننا وعافيتها.

* الدليل الحي: تمرد على الطب

* المؤلف: مايكل جيرن ـ توش

* الناشر: سكرايبر،

* لندن، 2003

* عدد الصفحات: 327 صفحة