لماذا كل هذا الخوف من الحرية؟

الدرس الذي يقدمه لنا كانط بعد مائتي عام من رحيله هو أن جوهر الدين لا يتعارض إطلاقاً مع التنوير

TT

في عام 1804 انطفأ ايمانويل كانط، اكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث، وربما في تاريخ البشرية. وكان قد ولد عام 1724، بمعنى انه عاش ثمانين عاما. وهو عمر طويل جدا بالنسبة لذلك الزمان ويعادل مائة سنة او اكثر بالنسبة لعصرنا الحالي. هذا العمر المديد اتاح له ان ينتج اعماله الفلسفية الكبرى على مهل. نقول ذلك وبخاصة ان النضج الفلسفي لكانط كان بطيئا ومتأخرا بالقياس الى هيغل ونيتشه مثلا. فهيغل توصل الى ضربته الفلسفية الكبرى، اي فينومينولوجيا الروح، وهو في الخامسة والثلاثين. ونيتشه كتب ولادة التراجيديا قبل الثلاثين! هذا في حين ان كانط لو مات قبل الستين او قبل السابعة والخمسين بالضبط، لما سمع باسمه احد. فكتابه الشهير فقه العقل الخالص جاء في ذلك العمر. والكثيرون يعتبرون كانط بمثابة ذروة التنوير الاوروبي لانه مشى بالعقلانية الى نهاياتها. ثم لانه تجرأ على فصل الفلسفة عن اللاهوت المسيحي بشكل راديكالي اخاف معاصريه وجعلهم يشعرون بالهلع الشديد. ولذلك فإن فكره كان ثوريا او انقلابيا اكثر مما نتصور. فبعد مائتي سنة عليه اصبح يبدو لنا عاديا، بل وحكيما لا يزعج احدا، اقول ذلك وانا اتحدث بالطبع من وجهة نظر المثقف الاوروبي، لا الشرقي ولا العربي والاسلامي، ولكن ينبغي ان نتموضع في عصره لكي نعرف حجم الاختراق الذي احدثه في تاريخ الفكر او عمق الضربة الفلسفية التي تجرأ عليها في ذلك الزمان.

ولم يفصل كانط الفلسفة عن اللاهوت الديني فحسب، ولم يفصلها عن الميتافيزيقا الغيبية او التجريدية فقط، وانما اسسها ايضا على قواعد دقيقة، علمية، صارمة. والواقع ان كل فلسفته ليست الا تنظيرا او تبريرا لتلك الثورة العلمية او الفيزيائية ـ الرياضية، التي غيرت وجه الغرب والعالم واقصد بها ثورة اسحاق نيوتن التي جاءت بعد غاليليو، وديكارت وكيسبلر، ولذلك قال بعضهم هذه العبارة الشهيرة التي ذهبت مثلا: لولا نيوتن لما كان كانط! فالشيء الذي بهر كانط او سحره هو التالي: كيف اصبح العلم الحديث ممكنا؟ كيف اصبحت العلوم الفيزيائية والرياضية قادرة على اكتشاف القوانين التي تمسك الكون او تتحكم به؟ وكيف امكن للانسان بعقله فقط ان يتوصل الى الكشف عن كل هذه الاسرار التي اودعها الخالق في خلقه؟ انها معجزة حقيقية ان يتوصل نيوتن الى قانون الجاذبية.

لكن كانط لم يقدم فقط الفلسفة العلمية لاوروبا وانما قدم ايضا الفلسفة الاخلاقية، بل وحتى السياسية، واكبر دليل على ذلك هذا الكتاب الذي هو بين ايدينا اليوم، فهو يشتمل على ثلاثة نصوص: الاول بعنوان السلام الدائم بين الأمم والثاني بعنوان كيف نتجه، او كيف نشق طريقنا في متاهات الفكر؟ والثالث بعنوان ما هو التنوير . وقد ترجمت النصوص الى الفرنسية وقدمت لها الباحثة الاكاديمية فرانسواز بروست. وسوف اتكئ على هذا الكتاب، مجرد اتكاء، لكي اقدم صورة عامة عن الموضوع.

ولن اتوقف هنا الا عند النص الثالث الخاص بالتنوير. تقول الباحثة المذكورة ما معناه: في عام 1784، اي عندما كان كانط قد بلغ الستين وطبقت شهرته الآفاق، وعندما كانت الانوار الالمانية قد وصلت الى ذروتها، طرحت احدى جرائد برلين السؤال التالي على مفكري المانيا: ما هو التنوير؟ ما معنى هذه الحركة الفكرية التي شغلت القرن الثامن عشر كله وبخاصة في فرنسا وانجلترا والمانيا وأدت الى انبثاق عقلية جديدة؟ وكان السؤال بمثابة استفتاء مطروح على المثقفين. وقد أجاب عنه بعضهم قبل ان ينزل كانط الى الساحة ويدلي بدلوه بين الدلاء كما يقال. نقول ذلك وبخاصة ان رئيس تحرير الجريدة كان صديقه وقد ألح عليه لكي يجيب باعتبار ان المانيا المثقفة كلها كانت تنتظر رأيه. قلت المانيا، وكان ينبغي ان اقول بروسيا لان المانيا الموحدة وبالمعنى الذي نعرفه حاليا لم تكن قد وجدت بعد. كانت مقسمة الى عشرات الدول الصغيرة والمتناحرة احيانا.

وبالتالي فقد جاء رد كانط كجواب على هذا الاستفتاء الصحافي ولم يكن يتجاوز العشر صفحات. وهذا يعني انه نص صغير بالقياس الى مؤلفاته الفلسفية الكبرى، لكنه ينطوي على دلالة بالغة من حيث كونه تعبيرا عن انخراط الفيلسوف في قضايا عصره وهمومه. فالفيلسوف، بحسب الصورة التقليدية التي كانت شائعة عنه، هو ذلك الشخص الذي يسكن في البرج العاجي وينقطع عن حركة العالم والمجتمع ويؤلف الكتب العويصة التي لا يفهمها أحد! هذه الصورة ليست صحيحة بالطبع ولا تنطبق على فيلسوف كبير بحجم كانط، فيلسوف يشعر في اعماق نفسه بأنه المسؤول عن قيادة البشرية نحو النور والحقيقة ومعلوم انه بعد صدور نقد العقل الخالص عام 1781، اصبحت كل كلمة ينطق بها ترن اصداؤها في جميع انحاء المانيا وربما اوروبا ويرى ميشيل فوكو ان كانط بنشره لهذا النص كان قد أحدث بدعة في تاريخ الفلسفة،ألا وهي انشغال الفيلسوف بالقضايا الكبرى للمجتمع والعصر. نقول ذلك وبخاصة ان كل كتبه الكبرى تبتدئ بكلمة نقد: نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد ملكة المحاكمة او التمييز.. ومعلوم ان كانط كان يقول عبارته الشهيرة: ان عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي ان يخضع له كل شيء بما فيه اقوال رجال الدين اي الكهنة والخوارنة.. فهؤلاء لا ينبغي ان يظلوا فوق النقد لان ذلك يعني تقويض العقل وعرقلة التقدم ومنع الحقيقة من الظهور.

وبالتالي فالتنوير يعني حقنا في النقد، اي في استخدام عقلنا بكل حرية، بل وبحرية مطلقة لا تحدها حدود اللاهوتيين او الكهنة الذين يقفون على رؤوسنا وكأنهم ظل الله في الارض، في حين انهم بشر وليسوا معصومين، وقد آن الأوان لتحجيم سلطتهم التي يمارسونها على النفوس والعقول عن طريق تقديم تفسير عقلاني للدين ورسالته الخالدة.

والواقع ان كل فلسفة التنوير ليست إلا قراءة تاريخية ونقدية وعقلانية للنصوص المسيحية. وهي القراءة التي قام بها فولتير او جان جاك روسو في فرنسا، او ليسنغ وكانط في المانيا.. الخ. وقد اصطدمت هذه القراءة بالقراءة القديمة الراسخة لرجال اللاهوت المسيحيين. وعن طريق هذا الاصطدام او الاحتكاك انبثقت شرارة التنوير.

على هذا النحو ينبغي ان نفهم تلك الحركة الفكرية العظيمة التي انتشرت في اوروبا اثناء القرن الثامن عشر بشكل خاص وأدت الى انطلاقتها الحضارية وتفوقها على الشرق العربي والاسلامي، بدءا من تلك اللحظة خلفونا وراءهم بسنوات ضوئية.

وما هو تعريف الانوار بالنسبة لكانط يا ترى؟ لقد آن الآوان لكي نستشهد ولو ببعض مقاطع قصيرة من نصه الشهير، يقول منذ البداية ما معناه: التوصل الى التنوير يعني خروج الانسان عن حالة القصور العقلي التي يجد نفسه فيها والتي هو وحده مسؤول عنها. فأن تكون قاصرا عقليا يعني ان تكون غير قادر على استخدام عقلك بدون وصاية شخص آخر وتوجيهه. فالانسان مسؤول عن هذه الحالة اذا لم يكن سببها نقصا في عقله وانما نقص في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده. وبالتالي: فلتتجرأ ايها الانسان على المعرفة! لتكن لك الشجاعة على استخدام عقلك! هذه هي وصية التنوير وخلاصته.

ثم يوضح كانط فكرته بعدئذ بشكل افضل، فالواقع انه ليس من السهل ان ننتقل من مرحلة القصور العقلي الى مرحلة البلوغ العقلي أو النضج والمسؤولية. فالكلام سهل، لكن الفعل هو الصعب. وهناك رجال يظلون اطفالا بالنسبة لآبائهم حتى ولو بلغ عمرهم الستين! والطفولة العقلية تريحنا لانها تعني ان الآخر يمكن ان يتخذ القرار ـ ويتحمل مسؤوليته ـ نيابة عنا. وبالتالي فلنبق اطفالا طيلة حياتنا كلها!.. وهذا هو موقف الكسل والجبن الذي يدينه كانط. ولكن هناك شعوبا بأسرها لا تزال طفلة بحسب هذا المنظور. واذا كانت الشعوب الاوروبية قد خرجت من مرحلة القصور العقلي واصبحت تفكر بشكل مستقل، ودون وصاية احد، فإن هذا غير متحقق حتى الآن في الشرق.

انظر الى حالة بعض الشعوب العربية او الاسلامية مثلا وكيف هاجت وماجت وصفقت لصدام عندما غزا الكويت، أو لبن لادن عندما ضرب نيويورك وقتل ثلاثة آلاف شخص دفعة واحدة!.

هل هذه شعوب مستنيرة؟ ان وضعها اقل تقدما من الشعب الالماني في زمن كانط او من بقية الشعوب الاوروبية. وبالتالي فمن السهل ان نقول: استنيروا ايها الناس واستخدموا عقولكم قبل ان تتصرفوا او تحكموا على أي شيء، لكنهم لا يستطيعون لسبب بسيط: هو انهم محشوون حشوا بالافكار الخاطئة وغاطسون في الجهل والفقر والتواكل منذ مئات السنين. وبالتالي فلكي يخرج الانسان من مرحلة القصور العقلي ويتوصل الى مرحلة التنوير او سن النضج والبلوغ ينبغي ان يخوض معركة هوجاء ضد نفسه وكل ما زرعوا فيه من افكار متعصبة وتصورات خاطئة منذ نعومة اظفاره.

وبالتالي فالتنوير مشكل من مرحلتين: الاولى سلبية، والثانية ايجابية، ينبغي اولا ان تقتلع كل الافكار الخاطئة المغروسة في اعماقك، بل والمتجذرة، وهذه عملية صعبة ومريرة لا يقدر عليها الا المفكرون الكبار الذين يسبقون شعوبهم عادة الى النور والحقيقة، اما الشعوب فتحتاج الى عشرات السنين لكي تنضج وتستنير.

وهذا الشيء كان كانط واعيا له كل الوعي بدليل انه يقول في نفس النص وبعد عدة فقرات ما يلي:

ولكن لكي ينتشر التنوير فإنه لا يلزمنا الا شيء واحد هو الحرية. واقصد بها حق الانسان في الاستخدام العلني لعقله في كل المجالات، لكن عندما ألفظ هذه الكلمة اجدهم يصرخون في كل النواحي: لا تستخدموا عقولكم ايها الناس! الضابط في الجيش يقول: لا تستخدموا عقولكم، وانما تدربوا على المناورات العسكرية او نفذوا ثم اعترضوا او حتى لا تعترضوا ابدا! وموظف الضرائب يقول: لا تستخدموا عقولكم ولا تناقشوا وانما ادفعوا! والكاهن المسيحي يقول لنا: لا تستخدموا عقولكم ولا تجادلوا، آمنوا! وفي كل الحالات هناك حصر وتقييد للحرية.

فلماذا كل هذا الخوف من الحرية؟ لانها تعني تمرد الصغير على الكبير، وابن الجارية على ابن الست، او الفلاح على الاقطاعي، والمحكوم على الحاكم المستبد، وبالتالي فسادة القوم ضد الحرية لان عصر العبودية يناسبهم تماما. بل وحتى الشعب المستعبد والمنهك من كثرة تعوده على العبودية والذل اخذ ينكر طعم الحرية! وقد يثور اذا ما ازالوا النير عن كاهله.

لا أحد يتجرأ على استخدام عقله لان الجميع خاضعون ومنذ قرون طويلة لنفس النظام الابوي، البطريركي، الاقطاعي، الاصولي، اللاهوتي، المستبد! وقد وصل الامر بكانط الى حد القول إن الحماسة التي أبدتها الشعوب الاوروبية، وليس فقط الشعب الفرنسي، تجاه الثورة الفرنسية كانت اكثر اهمية من الثورة ذاتها! لماذا؟ لانها كانت تعبيرا عن رغبة هذه الشعوب في التقدم الى الأمام واستعدادها لدفع ثمن هذا التقدم، بالطبع فإن انحراف هذه الثورة فيما بعد عن خطها الصحيح ودخولها في مرحلة الرعب والارهاب، ثم قطع رأس لويس السادس عشر تحت المقصلة الشهيرة، كل ذلك احزن كانط كثيرا واعتبره زيادة عن اللزوم! ولكن حماسته لبراءة الحدث الثوري الخارج من اعماق الشعوب لم تتغير ولم تتبدل وايمانه بمستقبل البشرية وقدرتها على التحسن اكثر فاكثر ظل قويا لا يتزعزع، وكل فلسفته ليست الا محاولة عبقرية لشق طريق الحقيقة امام البشرية المعذبة والجاهلة.

لقد ضحى كانط بحياته الشخصية وشطب عليها كليا من اجل ان يتفرغ للمهمة الاساسية التي لا مهمة بعدها: تحرير الروح البشرية من السلاسل والاغلال التي تخنقها وتكاد تقضي عليها. وعرف ان تحرير الروح، اي انتصارها على ذاتها، على قيودها واصفادها، هو اكبر عمل يمكن ان يقوم به فيلسوف ويقدمه كهدية لشعبه وللبشرية بأسرها.