بوتين رجل المخابرات الغامض العاطل عن العمل كيف أصبح رئيسا لروسيا

كتاب جديد يتحدث عن كيفية صعود الرئيس الروسي على أكتاف اليمين واليسار والوسط ما بعد الاتحاد السوفياتي

TT

قليلة هي الكتب التي تتناول الواقع الروسي، والشيشاني بواقعية من دون إظهار توجه ديني، أو ايديولوجي، ومن هذه الكتب، كما نعتقد، كتاب الدكتور سامي عمارة المقيم في موسكو منذ سنوات طويلة، وهو بعنوان »بوتين من الشيشان الى الكرملين».

يتتبع المؤلف سيرة بوتين منذ البداية والذي ولد في ليننجراد في أكتوبر 1952 وحتى الساعات الاخيرة من عام 1999 التي فقدت فيها فصائل الحركة القومية المعارضة في موسكو برحيل بوريس يلتسين عن عرش الكرملين حليفا ونصيرا ساهم في رفع رصيدهم الانتخابي بعد أن ظل مادة خصبة لكل حملاتهم الانتقادية، وكان واضحا ـ كما يشير الكتاب ـ ان من اختاره يلتسين لخلافته يظل افضل الخيارات المطروحة استنادا الى عدة اعتبارات.

فبوتين يمثل،حسب المؤلف، واحدا من أهم اجهزة القوة في الدولة السوفياتية السابقة وهو جهاز المخابرات الذي حقق العديد من الانجازات التي طالما تغنى بها الشيوعيون والقوميون فضلا عن نجاحه النسبي على صعيد التصدي للمقاتلين الشيشان في داغستان ثم في الشيشان.

ولم يكن أحد في موسكو، من يعرف فلاديمير بوتين، يتوقع أن يصل مثل هذا الشاب المتوسط القامة النحيف العاطل عن العمل صاحب الصوت الغامض الى عرش الكرملين يمثل هذه السهولة.

لقد أنهى دراسته القانونية، ثم التحق بجهاز الـ«كي جي بي» ليصبح الملازم بوتين أو «بلاتوف» ـ وهو الاسم الحركي الذي اختاره له الجهاز ـ كما يرصد الكتاب ـ وعمل في قسم السكرتارية حتى انتقل الى ادارة الأمن الخارجي حيث تخصص في متابعة ما سماها بالعناصر الاجنبية ثم التحق بجهاز المخابرات الخارجية الامر الذي توجب معه انضمامه الى الحزب الشيوعي والذي لم يكن لاحد أن يبدأ عمله في مثل هذه الاجهزة من دون التمتع بعضويته.

ويقول عمارة إن بوتين لم يهاجم هذا الحزب ولم يدن نشاط المخابرات حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي شأن كثير من ممثلي التيار الديموقراطي ولم يعلن تخليه عن عضوية الحزب حتى بعد انقلاب اغسطس 1991 وظل محتفظا ببطاقته الحزبية ولم يحرقها.

ويكشف الكتاب أن بوتين عمل قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بجهاز المخابرات لمدة ستة عشر عاما منها خمس سنوات في المانيا الديمقراطية، أي منذ عام 1985 مع بدء سنوات البيرويسترويكا وحتى عام 1990.

وينتقل الكتاب الى الحديث عن منطقة الشيشان، ويقول إن انظار الكرملين قد تحولت اليها بعد حسم الخلافات مع بعض الكيانات القومية مثل تتارستان حول ابعاد الاستقلالية الاقتصادية والسياسية، وبعد تردد لم يدم طويلا حول سبل الحوار مع السلطات المتمردة في الشيشان.

لقد عمد الكرملين الى اساليب ملتوية تجمع بين الاعراب عن الاستعداد للحوار وتدبير المؤامرات للاطاحة بالخصم أن لم يمتثل لثوابت ومتغيرات النظام، وفي اطار يقترب من الملامح الرئيسية لشخصية بوريس يلتسين على نحو بدت معه القبضة الحديدية في قفاز من حرير.

وحاولت السلطة الفيدرالية، كما يقول المؤلف، الاستفادة من أخطاء نظام الجنرال دوداييف وتصاعد الاضطرابات وضياع النظام وتفشي الجريمة التي تعدت نطاق الجمهورية إلى ما جاورها من مناطق شمال القوقاز وجنوب روسيا فضلا عن تورط عدد من المسؤولين الروس والشيشان في جرائم تهريب الاموال وفق مستندات بنكية مزورة تدفقت بموجبها المبالغ الطائلة من بنوك روسيا الحكومية الى خزائن نظام دوداييف.

واستطاع هذا النظام، الذي كان قريبا من الاحتضار السياسي،استجماع قواه واستعادة زخم الشعارات القومية استنادا الى أبعاد الصحوة الدينية للقضاء على محاولة الاستيلاء على جروزني واعتقال بعض ضباط المخابرات الروسية الذين شاركوا في هذه المحاولة مما اضاف الى رصيده كبطل قومي الكثير من المؤيدين والمناصرين، في حين اعتبر يلتسين ما حدث صفعة موجهة اليه شخصيا.

ويشير الكتاب الى أن جميع اعضاء القيادة الروسية باركت القرار الذي اتخذه مجلس الأمن القومي الروسي حول الغزو المسلح للشيشان عدا جوري فلميقوف وزير العدل آنذاك الذي استقال منصبه احتجاجا على ذلك القرار.

لقد شهدت الحرب الشيشانية الثانية تواطؤاً بين رموز الكرملين والسلطة والثروة في موسكو وهو ما جعل يلتسين ازاء كل هذا لا يملك كل أوراق القرار الذي تنازعته فيه قوى كثيرة بعضها يتخذ موقف المعارضة بعد خروجه من دائرة السلطة.

ويوضح د. عمارة ان استطلاعات الرأي العام في بداية الحرب كشفت أن نسبة المؤيدين لقرار الرئيس يلتسين وتوجهاته ازاء الشيشان لم تزد على 8% وعلى 3% لنشاط وزير دفاعه جراتشوف. ويعلل المؤلف ذلك بأن الساحة السياسية في مجملها كانت معادية لقرار الحرب وان ظهر المؤيدون بين فصائل الحركة القومية، ومن ممثلي القوى اليمينية.

ثم يتناول المؤلف تلك الفترة العصيبة في حياة روسيا والتي رفض فيها الكثير من الكيانات القومية التي تدين غالبيتها بالاسلام ارسال ابنائها للخدمة في القوات المسلحة لمخاوف الزج بهم الى الشيشان، وهو ما دعا شعب انجوشيا الى الخروج في شوارع المدن والقرى ليعترضوا طريق الدبابات والمدرعات التي كانت تتخذ طريقها الى الشيشان.

ومع تصاعد الحرب فرضت الشيشان نفسها على خريطة اهتمامات الشارع ودوائر السياسة على حد سواء، ولم يكن ثمة بد من المخاطرة.

ويرى عمارة ان الاعلام العربي كان ابعد ما يكون عن الساحة وانه لا يزال يعتبر الأزمة الشيشانية قضية دينية يحرص على تناولها والحكم عليها استنادا الى معايير العاطفة في الوقت الذي كانت فيه ولا تزال قضية سياسية ينبغي تناولها وفق منظور أحكام المنطق والعقل.

فالوجود الروسي الحالي في شمال القوقاز يبقى في مقدمة اولويات سياسة بوتين الداخلية وليس الخارجية وتدعيما لاستعادة هيبة الدولة العظمى التي يرى أن المؤسسة العسكرية لا بد أن يكون عمادها الرئيسي، وهو ما يبرر تشدد بوتين في التعامل مع قضية الشيشان في انتخابات الرئاسة.

ويشير المؤلف الى أن الشيشان تبقى رغم كل شيء أكبر المشاكل التي تواجه روسيا بوتين، كما انها تبقى بالنسبة له الجبهة الرئيسية لمكافحة الارهاب وهو ما يتطلب ان تبقى الشيشان ضمن قوام روسيا الاتحادية.

ويطرح الكتاب تصورا لحل المشكلة الشيشانية بأن يتم عزل السكان المدنيين عن المقاتلين بالاضافة الى اجراء المباحثات مع القادة المدنيين للتوصل الى تنفيذ خطة نقل السلطة التنفيذية الى الادارة الذاتية للجانب الشيشاني وتشكيل اجهزة الأمن المحلي، ومحاصرة البؤرة الانفصالية الشيشانية وعدم التقليل من أهمية العسكريين الذي يضطلعون بما يوكل في اطار هذه المهمة بالاضافة الى ببذل الجهود الموجهة حول الوضع في الشيشان وليس فقط قيادات المنظمات الدولية وزعماء البلدان الاجنبية بل ومع الاوساط الاجتماعية خاصة تلك الدول التي اعلنت عن تأييد العمليات الأميركية ضد الارهاب.

وهنا يستعرض الكتاب توازن القوى القائم في الساحة السياسية والمالية ويرصد الاسباب التي قد تفسرعزوف الرئيس بوتين عن خوض مواجهة مباشرة مع ممثلي «الاوليجاركيا» وان بدا على غير وفاق مع سياستهم وتوجهاتهم استنادا الى تطورات الصراع التي تتوالى فصولها العبثية على وقع تصاعد تدخل السفارة الأميركية في موسكو في شؤون روسيا الداخلية.