هل صرف الترف أوروبا عن تحديد أعدائها الحقيقيين؟

منظر إدارة الرئيس بوش روبرت كاغان يدعو في كتاب يشبه بياناً سياسياً الدول الأوروبية إلى الانخراط في المشروع الأميركي

TT

كيف يمكن ان نفهم الكتاب الجديد لروبرت كاغان احد المنظرين الاساسيين لادارة بوش الحالية؟ ينبغي ان نتذكر انه اصدر في العام الماضي كتابا لفت انتباه معظم المراقبين والفلاسفة والمثقفين. وكان عنوانه بكل بساطة: القوة والضعف اي اميركا واوروبا. وفيه عاب على الاوروبيين رخاوتهم وضعفهم امام الانظمة الديكتاتورية وعدم الانضمام الى اميركا لقلبها بالقوة.

كان ذلك قبيل حرب العراق بقليل، وكانت محاجته الاساسية هي ان اوروبا ما بعد الحداثة اصبحت ناعمة ومترفة اكثر من اللزوم، وبالتالي فلم تعد راغبة في التدخل في شؤون الدول الاخرى لانقاذ شعوبها من وحشية النظم الطغيانية، وانما هي تلقي بالمسؤولية على كاهل القانون الدولي ومنظمة الامم المتحدة ومجلس الامن، وتريح ضميرها بذلك وتتنصل من عبء المسؤولية. وقال روبرت كاغان إن هذا موقف غير مسؤول لأنه يعني استمرارية الانظمة الديكتاتورية واستمرارية قمعها لشعوبها وبالتالي فالتدخل الانساني في شؤون الدول الاخرى اصبح اهم من القانون الدولي النظري او التجريدي الذي لم ينقذ شعب رواندا او البوسنة ولا اي شعب آخر من المجازر. وحدها القوة اوقفت الطغاة عند حدهم، سواء أكانوا ميلوزوفيتش في يوغوسلافيا أم صدام في العراق أم اي مستبد آخر، وبالتالي فاميركا على حق اذ تلجأ الى القوة لقلب هذه الانظمة ونشر الديمقراطية والحرية والتسامح الديني في شتى انحاء العالم.

وها هو يعود الآن من جديد الى نفس الموضوع بعد مرور عام او اكثر على معركة العراق وما تلاها من احداث وتفاعلات لا تزال تتوالى امام اعيننا حتى الآن. فهل غيّر موقفه يا ترى؟ ظاهريا نعم، لكن ليس الى الحد الذي نتصوره، فعنوان الكتاب يوحي بأن هناك تغييرا في الموقف او تعديلا له بالاحرى، فقفا القوة او الوجه الآخر للقوة ـ اي الوجه السلبي ـ يعني الاعتراف بمحدودية القوة. وهنا نلاحظ ان كاغان يدخل مصطلحا آخر ما كان موجودا في كتابه السابق: هو مصطلح المشروعية، فالقوة بدون مشروعية تظل عاجزة عن تحقيق كل اهدافها حتى لو كانت قوة جبروتية عظمى كالقوة الاميركية الحالية، واكبر دليل على ذلك المأزق الاميركي في العراق. فلو ان اميركا كانت تتمتع بمشروعية دولية واسعة لاستطاعت تحقيق الاستقرار في وادي الرافدين بسرعة اكبر وبسهولة اكثر، لكن ظهرها مكشوف للعالم كله، والدول الكبرى كالصين وروسيا مثلا، تتربص بها الدوائر وتنتظر لحظة هزيمتها لكي تشمت بها او تستغل الوضع لصالحها.

لكن ليس هذا هو الشيء الذي يحزن او يزعج فعلا روبرت كاغان، فهاتان الدولتان كانتا عدوتين لاميركا في السابق ولا تزالان منافستين بشكل او بآخر، وبالتالي فلا يمكن لاميركا ان تنتظر منهما موقفا آخر. لا، الشيء الذي يحز في قلب المفكر الاميركي ويؤلمه هو موقف اوروبا الحليفة التاريخية لاميركا وأمها في الواقع، كما قال الجنرال ديغول في عبارة شهيرة، فاميركا هي بنت اوروبا، لكن على الضفة الاخرى من المحيط الاطلسي، كما انها تشاطرها نفس القيم الفلسفية ونفس الآيديولوجيا الليبرالية الديمقراطية، وبالتالي فظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. وموقف شيراك وشرودر أثر في بوش اكثر بكثير من موقف كل زعماء العالم الآخرين، فهو كان ينتظر منهما عونا وسندا لضبط الامور في العراق او للسيطرة على زمام الامور، لكنهما رفضا الانخراط في هذه المسألة الشائكة، بل وانتقدا اميركا بقوة، وبخاصة فرنسا. وبالتالي فكتاب روبرت كاغان هو في الواقع عبارة عن تصفية حسابات مع الاوروبيين ومحاولة اخيرة لاستمالتهم وترضيتهم، فهو يعرف انه اذا ما انضمت اوروبا الى اميركا ككتلة واحدة، فإنهما قادرتان ليس فقط على حسم مشكلة العراق وانما اي مشكلة اخرى في العالم. ولا يمكن لاي قوة كبرى بما فيها الصين او روسيا ان تتصدى لهما اذا ما كانتا موحدتين.

ثم يقول كاغان للاوروبيين ما يلي: لقد قاتلنا ميلوزوفيتش معا من خلال حلف الاطلسي وقصفنا بلغراد مثلما قصفنا بغداد ولم يكن معنا اي تخويل من الامم المتحدة او مجلس الامن بذلك، ومع ذلك فلم تقولوا آنذاك إننا انتهكنا القانون الدولي او اننا خرجنا على الشرعية الدولية، كنتم راضين آنذاك بتدخلنا، بل وتوسلتم الينا لكي نقبل بالتدخل واسقاط الديكتاتور ومنع حصول ابادة جماعية للسكان المسلمين في اقليم كوسوفو، فماذا حصل لكي تغيروا رأيكم في ما يخص العراق؟

ثم يردف روبرت كاغان قائلا: نعم، لقد كان تدخلنا مضادا للقانون الدولي، لأننا انتهكنا سيادة دولة مستقلة، لكننا انقذنا شعبا كاملا من المجزرة. فما هو الافضل؟ ان ننتظر حتى يفرغ الديكتاتور من قتل شعبه او قسم منه، ثم بعدئذ نتحرك؟ هل القانون الدولي، النظري والتجريدي، اهم من حياة ملايين البشر من نساء واطفال وشيوخ وشباب؟ فلماذا لم تحتجوا علينا عندئذ كما تحتجون وتصرخون في ما يتعلق بمسألة العراق؟ وكلكم يعلم ان هناك تشابها كبيرا بين الحالتين.. ثم يقول كاغان إن النظام الدولي القديم وحتى وثيقة الامم المتحدة القائلة بعصمة كل دولة وسيادتها وعدم جواز انتهاك هذه السيادة بأي شكل مهما فعلت بشعبها في الداخل قد سقطت واصبحت ملغية، فلا عصمة بعد الآن لاي دولة تنتهك حقوق الانسان بشكل صارخ داخل حدودها وتذل شعبها على مرأى ومسمع من البشر اجمعين. فنحن دخلنا في عصر العولمة الكونية ولم يعد هناك من شيء مخفي، او يمكن اخفاؤه، واذلال شخص واحد او سحق كرامته في اي بلد يعني انتهاك كرامة البشرية جمعاء. نعم، لقد دخلنا في عصر جديد وسقطت معصومية السيادة للدول حتى لو كانت اعضاء في الامم المتحدة، وبالتالي فإن فرنسا والمانيا وقعتا في تناقض واضح وفاضح، فقد طالبتا اميركا بالالتزام بالقانون الدولي وعدم التدخل في العراق عام 2003 هذا في حين انهما انتهكتا هذا القانون الدولي بالذات عام 1999 عندما تدخلتا بالقوة لانقاذ كوسوفو واسقاط ميلوزوفيتش! ثم يوسع روبرت كاغان الاشكالية حتى يصل بها الى عمقها الفلسفي ويقول: في الواقع ان الحق يقع على الرؤية الليبرالية الحديثة للتقدم في ما يخص تنظيم العالم والشؤون الدولية، فهذه الرؤية كانت غامضة وازدواجية ان لم نقل تناقضية منذ البداية. فمن جهة كانت الليبرالية منذ عصر التنوير، اي عصر كانط، تطمح الى انتهاء الحروب وترسيخ السلام العالمي عن طريق تقوية النظام القانوني الدولي باستمرار، لكن نجاح هذا النظام مرتبط بالاعتراف بالسيادة الكاملة لجميع الدول، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، ديمقراطية ام استبدادية، انسانية ام بربرية.

فالقانون الدولي لا يمكن ان يسود العالم اذا ما تدخلت كل دولة في شؤون الدول الاخرى او حاولت تغيير نظامها السياسي بالقوة، لكن من جهة اخرى نلاحظ ان الليبرالية الحديثة حريصة ايضا على حماية الحريات والحقوق الفردية، وكانت تحدد تقدم البشرية على ضوء حماية ونشر هذه الحريات في شتى انحاء العالم. وهنا يقع وجه التناقض والمعضلة المحيرة، فمن جهة لا يحق لنا ان نتدخل في شؤون الآخرين لكيلا ننتهك القانون الدولي، ومن جهة اخرى ينبغي علينا ان نتدخل لكي نحمي حقوق الانسان والحريات الفردية المهددة في هذا البلد او ذاك! فما العمل؟ هل ننتظر حتى تصبح جميع دول العالم ديمقراطية تحترم شعوبها ولا تهين الكرامة الانسانية في ابسط متطلباتها، ام نتدخل لتسريع هذه العملية ونخفف الضغط والآلام عن الشعوب المحكومة بالحديد والنار؟ واذا ما انتظرنا حتى تحصل طفرة ديمقراطية تشمل العالم كله، ألن يطول انتظارنا يا ترى؟ وفي اثناء ذلك كم من الارواح سوف تزهق ومن الشعوب سوف تقمع؟

وهناك حالات متطرفة وانظمة شديدة الطغيان، لأن الطغيان درجات ايضا، فهل نقف مكتوفي الايدي امام ما تفعله بشعوبها؟ وحتى متى؟

ان القانون الدولي كله يصبح ورقة فارغة لا تساوي قيمة الحبر الذي كتب عليها اذا لم يتدخل انسانيا لمنع ارتكاب المجازر والجرائم. وكبار منظري الفلسفة الليبرالية، اي فلسفة الحرية والنزعة الانسانية، من مونتسكيو الى ايمانويل كانط، كانوا يقولون إن الانظمة الاستبدادية هي الاكثر ميلا للعدوان بطبيعتها، وبالتالي فالقانون الدولي لا يرتكز على القواعد التشريعية النظرية بقدر ما يرتكز على اسقاط هذه الانظمة وتوسيع دائرة الحرية والانظمة التي تحترم القانون وكرامة الانسان في العالم، ثم يردف روبرت كاغان قائلا بما معناه: مشكلة اوروبا هي انها تعتقد بأن العالم كله اصبح مثلها يعيش في عصر ما بعد الحداثة: اي في بحبوحة من العيش ويحترم القانون ويتقيد بفلسفة جان جاك روسو ومونتسكيو وكانط وكل التنويريين! لكن العالم ليس كله كذلك يا مسيو شيراك ويا مستر شرودر! العالم غابة من الذئاب او لا يزال كذلك للأسف الشديد، واذا ما عاملت الطغاة المستبدين او الاصوليين المتخلفين والمتعطشين لسفك الدماء بلغة كانط او روسو، فإنهم يضحكون عليك! وحدها لغة هوبز، اي لغة القوة، تنفع معهم. مع الانسان الحضاري تستخدم لغة الحوار والمنطق والقانون الدولي، ومع الانسان الهمجي تستخدم العصا الغليظة لأنه لا يفهم الا لغة القتل والضرب، ولو ان العالم كله تحول الى جنة ما بعد الحداثة، كما حصل لاوروبا الغربية اخيرا لكان ينبغي علينا ان ندين اميركا ادانة مطلقة لتدخلها في كوسوفو والعراق، لكننا نعلم ان الامر ليس كذلك، وانه بقي امامنا طريق طويل لكي يتحقق هذا الحلم العظيم بالنسبة للبشرية جمعاء.

هذا هو ملخص طرح روبرت كاغان كما فهمته، ثم يضيف قائلا وموجها تحذيرا واضحا الى الاوروبيين في نهاية الكتاب: حذار ان ينقسم الغرب على نفسه الى كتلتين متخاصمتين: اوروبية واميركية، لأن النتيجة ستكون اضعاف الجميع وتقوية اعداء الحرية والديمقراطية وهم كثيرون، فالعالم لا يزال خطرا والحركات الارهابية المتزمتة لا تزال ذات احتياطي بشري واسع، وبامكانها ان تستخدم اسلحة الدمار الشامل يوما ما وتدمر مدنية بأسرها عن طريق الغازات الكيميائية او الفيروسات البيولوجية او حتى الاسلحة الذرية الصغيرة .. وعندئذ سيتذكر الناس ضربة (11) سبتمبر وكأنها حادثة بسيطة! ان اضعاف العالم الحر ليس من مصلحة احد ولا ينبغي على الاوروبيين ان يخطئوا في العدو: فعدوهم ليس اميركا، وانما هو في مكان آخر، وبالتالي فانضموا الينا في هذه المعركة الشرسة من اجل الحفاظ على الحضارة البشرية والحد الادنى من توازن العالم واستقراره، وإلا فإن الطوفان سوف يجرف الجميع وسوف تندمون على مواقفكم حين لا ينفع الندم. ولو ان اميركا صفت الى جانب الاوروبيين وتبنت موقفهم المتساهل والغافل عن الاخطاء المحدقة لأصبح أمنها وأمنهم في خطر شديد، وبالتالي فنحن نطالب اوروبا بأن تستشعر الخطر وان تتخذ موقفها بناء على ذلك. نحن لا نطالبها بتقديم الطاعة العمياء لاميركا او اتباعها في كل شيء، لكننا نطالبها بأن تنسق معنا وان تتحمل مسؤوليتها وعندئذ سوف نشركها في اتخاذ القرار ولن نستفرد به كليا كما فعلنا طيلة عهد بوش. والآن ماذا يمكن ان نقول عن هذا الكتاب الذي يشبه البيان السياسي؟

في الواقع ان هذا هو التنازل الوحيد الذي يقدمه روبرت كاغان للاوروبيين: الا وهو اشراكهم في اتخاذ القرارات التي يتوقف عليها مصير العالم وعدم تجاهلهم بعد الآن، كما فعلت ادارة بوش تحت قيادة المحافظين الجدد والصقور، لكن هذا الاشراك له ثمن: الا وهو مساعدة اميركا وخلع المشروعية الاوروبية على اعمالها، وهناك شيء ثان: فهو يعترف بقيمة اوروبا الحضارية واهميتها ووزنها على المستوى الدولي، فهي الكتلة الوحيدة في العالم التي تهم اميركا فعلا، وذلك على عكس الصين مثلا او روسيا او الهند التي لا يعتبرها كتلا حضارية او ليبرالية ديمقراطية حتى الآن، فهو يعرف ان اوروبا هي مهد الحضارة حتى قبل ان تولد اميركا، وبالتالي فلا يمكن الاستخفاف برأيها ووزنها كما فعل رامسفيلد وسواه.

لكن الفرنسيين يردون عليه قائلين: بأن الاستراتيجية الاميركية في العراق ومنطقة الشرق الاوسط كلها لن تنجح اذا لم نجد حلا للقضية الفلسطينية، وهنا توجد نقطة خلاف حقيقية بين اوروبا، وبخاصة فرنسا من جهة، والاميركان من جهة اخرى، فالاميركان يتصرفون وكأن العراق موجود على كوكب وفلسطين على كوكب آخر! لا ريب في ان دفاعهم عن قيم الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في كرامتها شيء رائع، لكنه على ما يبدو لا ينطبق على فلسطين، وبالتالي فمشروعية مهمتهم في العراق تأذت كثيرا من هذا الموقف اللامسؤول وغير المفهوم، ولن تعود مصداقيتهم في المنطقة الى سابق عهدها إلا اذا وضعت اميركا كل ثقلها في الميزان وساهمت في حل المشكلة المركزية للشرق الاوسط، بعدئذ تستقيم امورها في العراق وغير العراق، واما قبل ذلك فلا.

واعتقد ان هذا اكبر نقد يمكن ان يوجه الى الاستراتيجية الاميركية او الى الفلسفة السياسية الاميركية، ولا اعرف ما هو رد روبرت كاغان على هذا الاعتراض، لكن الشيء الذي اعرفه هو انه لم يخصص صفحة واحدة، بل ولا حتى سطرا واحدا في كتابه المهم لهذه المسألة الاساسية!

* قفا القوة.. الولايات المتحدة في حالة بحث عن المشروعية

* المؤلف: روبرت كاغان

* دار النشر: بلون ـ باريس