سليم الحص: الطائفي لا يُعرف بخطابه السياسي بل بسلوكه

رئيس الوزراء اللبناني السابق في كتابه «عُصارة العمر»: أخطأت في حملتي على بعض السياسيين وإذا كنت تماديت في الخطأ فإني اعتذر

TT

«عصارة العمر» التي يقدمها للقارئ رئيس الوزراء اللبناني السابق سليم الحص تأخذ اتجاهين، الأول: استخلاص التجربة الحياتية وتقديمها للقارئ أمثولات لا تأخذ المنحى الوعظي البليد. والثاني محطات العمر والتحولات الأساسية في حياة هذا الرجل العصامي.

ضمن هذين الاتجاهين يعرض الرئيس الحص رأيه في الشؤون اللبنانية، مثل الفساد والطائفية والمشاركة والنظام الانتخابي والإصلاح السياسي والديمقراطية، وغيرها من المسائل الخلافية. كذلك في الشؤون العربية، مثل حرب العراق والمقاومة والانتفاضة الفلسطينية والإرهاب وتبادل الأسرى. أيضاً في الشؤون الاقتصادية، مثل الخصخصة والدّيْن العام وسبل الحل للمديونية والأزمات المالية والاقتصادية. لا ينحو الرئيس الحص منحى السيرة الذاتية في كتابه هذا، الصادر حديثاً عن « شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت، كذلك لا يقارب المذكرات، بل يدخل إلى مواضيعه بمنهجية مغايرة. يستنجد بالذاكرة لتسعفه في تدعيم رأي، ويعرض محطة من حياته لتثبيت موقف. وفي كل الحالات يسم رأيه الصدق والأمانة والشفافية حتّى تحسبه يكتب عن غيره حين ينقد نفسه، ويعتذر بشجاعة وجرأة عن أخطاء ارتكبها خلال ممارسته للحكم. يقول: «قد أكون أخطأت، وربما تماديت في الخطأ في حملتي على بعض السياسيين وإن كنت قد أسأت التقدير في هذا التوجه أو المسلك، فإنني ههنا أعتذر من هؤلاء».

يتناول الكتاب الشجون اللبنانية، فينحت مصطلح «ثقافة الفساد» بعد أن غدا لكل شيء ثمن، فأصبح المال بالتالي معياراً للنجاح والوجاهة والسطوة. ولم يعد للشعور بالواجب مكان، ولا للمسؤولية العامة اعتبار، ولا للضمير المهني دور، ولا للالتزام الوطني وزن. ويرى أن نبدأ في كسر حلقة الفساد بنظام انتخابي يستعيد الناخب في ظله دوره في مساءلة النائب ومحاسبته، لأن ذلك إذا تحقَّق فإن مجلس النواب يستعيد دوره في محاسبة الحكومة، ومن ثم تستعيد الحكومة دورها في محاسبة الإدارة. وعلى الصعيد الإعلامي، يرى أن المنبر السياسي الأكثر فعالية هو الإعلام. وكثيراً ما يكون في يد الإعلام الموجّه والمرتهن صنع النجاح والفشل في السياسة. ففي لبنان كثيراً ما يكون الخبر وجهة نظر، وكثيراً ما تكون الحقيقة كما تبدو لرائيها.

ويرى أنَّ الطائفية صفة لا يعتز بها ذووها، لا بل يتعمدون التبرؤ منها، فالطائفي لا يُعرف بخطابه السياسي بل بسلوكه. والتسليم من الطائفيين بأن الطائفية مذمَّة هو ظاهرة مشجعة، لأن ذلك يعني أن العمل على تلافيها، وبالتالي معالجتها، يغدو من المسلمات لا بل من الفضائل. ويؤكِّد أن الطائفية ما هي إلاّ وصفة تقوم على كثير من العصبية وقليل من الدين. ولا تعني بحالٍ، التعددية الدينية التي هي مصدر ثراء للمجتمع، بما تنطوي عليه من تنافس على الخير الذي تدعو إليه كل الأديان السماوية.

أما الديمقراطية، فيرى الحص أن النظام اللبناني يفتقر إلى الديمقراطية على وفرة الحريات فيه. فقد فشل النظام اللبناني في تأمين الحريات العامة، والعدالة والمساواة وسائر حقوق الإنسان. ويتطلع الدكتور الحص ليغدو لبنان النموذج الديمقراطي الصالح الذي يحتذى. وبرنامج عمل هذا النضال يتلخص في التلاقي الفاعل بين النخبة المثقفة ومؤسسات المجتمع المدني التي ترى في تفعيل الديمقراطية هدفاً أسمى.

ولأن الحرية في نظر الرئيس الحص لا تعني الانعتاق من ربقة العبودية أو الاحتلال فحسب، ولا تعني حق التعبير عن النفس بشتى السبل فقط، بل تعني أيضاً التحرر من الفقر والجهل والعصبيات. فالباحث عن لقمة لأطفاله لا يبحث عن درب لتحرير فلسطين. فالمعاناة الاجتماعية تدفع بقضايا المجتمع إلى الخلف، وتهمش القضايا الكبرى.

وبعد أن يعرض للعلاقات المميزة مع سوريا، والتي شكلت لديه ولدى السوريين مفهوماً خاصاً في التعامل، حيث كان يرفض تنفيذ التعليمات، وكذلك يتفهم السوريون موقفه مما خلق نوعاً من التفاهم المبني على الثقة الناضجة التي يحكمها الرباط القومي الذي يشد الطرفين الشقيقين. ثمّ يعرض رأيه في عقوبة الإعدام التي يراها أمراً بالقتل هو في منزلة فعل القتل. يتعرَّض للقوانين الحاكمة غير المكتوبة في لبنان مثل قوانين الطائفية والمحسوبية والواسطة والرشوة والفساد، ليصل إلى الشؤون العربية من بوابة العصر الأميركي الذي رأى في العراق مفتاحاً لشرق أوسط خاضع كلياً.

ويشخص الدكتور الحص آفات العالم العربي بكلمتين هما الحرية والديمقراطية. ففلسطين تفتقد حريتها تحت نير الاحتلال الصهيوني، والشعب الفلسطيني يفتقد الحريات العامة على كل صعيد، ولم يبق سوى حرية الاستشهاد. والعراق كان يفتقد الحرية والديمقراطية في نظامه فبات يفتقدهما بقوة الاغتصاب. فإن احتلال أميركا للعراق وضع ثاني أكبر مخزون نفطي في العالم تحت قبضتها. ووضع هذه القوة على تخوم دول نفطية منها إيران والكويت والمملكة العربية السعودية، وعلى تخوم دول أخرى ذات موقع استراتيجي منها سوريا وتركيا والأردن.

يتطرق الرئيس الحص إلى وصمة الإرهاب فيراها إرهاباً مماثلاً يتلون وفق معطيات الإفادة من رواجها واستثمار تعميمها. وينظر إلى ظاهرة الازدواجية في المعايير التي تستبيح للدول الكبرى ما تحرمه على الدول الضعيفة. فها هي إسرائيل تقتني كل الأسلحة المحرمة على العرب، وإن الدول التي تحتفظ بمثل هذه الأسلحة في ترسانتها تحتفظ ضمناً بحق استخدامها بطبيعة الحال، وهذا ما يشكل معادلة مختلة في التعامل الدولي.

في الفصل الأخير، يبحث الكتاب في مجموعة من الشجون الاقتصادية، كأزمة المديونية، والوجه المالي للأزمة الاقتصادية بعد باريس 2. ومفارقة تثبيت الليرة اللبنانية على الدولار المتراجع القيمة. وإغفال الوجه الاجتماعي المعيشي إغفالاً شبه تام عند الحديث عن الأزمة المالية. ويرى أن مشكلة الدين العام ليست في وجوده بل في عبئه على الاقتصاد الوطني، والحل يكون في الأموال الوافدة التي يقف دونها معيقات منها: بطء القضاء، عقم الإدارة، الفساد المستشري، شح المعلومات الإحصائية، تشرذم الواقع السياسي، الإخفاق في وضع حد للعجز المتفاقم، الوضع الإقليمي. لذلك فإن حركة التنمية تبقى مرتبطة بالتوصل إلى برنامج إصلاحي سياسياً وإدارياً، ناهيك بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والمالية.

كتاب يبعث الأمل في مواجهة المعوقات، واختلال التوازن، ويعيد الثقة بالمعالجة الهادئة والرصينة بعيداً عن التوتر والإحباط والقفز فوق الأزمات. كتاب يسير على نهج مؤداه: كلما سقط أمل اخترعنا أملاً جديداً.