الصورة المتبادلة بين العرب واليابانيين

الباحثة البحرينية الدكتورة نصرة البستكي: الخليج الذي تحول إلى مجرد سوق استهلاكية لبضاعة الآخرين ينبغي أن يتحول إلى طاقة إنتاجية وتصديرية

TT

بهذه الكلمات استهل المفكر العربي الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري تقدمته للكتاب الجديد للمؤلفة والباحثة البحرينية د. نصرة البستكي، والتي أصدرت العام الماضي كتابها المهم الذي أثار ردود فعل واسعة بعنوان: «أمن الخليج: من غزو الكويت إلى غزو العراق». ويأتي كتابها الجديد تحت عنوان: «اليابان والخليج: استراتيجية العلاقات والمشروع النهضوي» ليمثل امتداداً لمشروع الكاتبة البحثي، التي تحاول من خلاله تلمس مشروع نهضة خليجي يستجيب لتحديات الواقع الراهن، دون أن يفقد معطياته التاريخية والثقافية، أو يتنصل من قدره الجغرافي، وذلك عبر منهج تحليلي نقدي، يطرح الاشكاليات والهواجس بشفافية بحثية وقدرة توثيقية تعطي للدراسة طابعها العقلاني. والكتاب يمثل أول دراسة تربط بين تجربة التحديث اليابانية وتصورا كاملا عن استراتيجية العلاقات اليابانية الخليجية وأثرها في تشكيل ملامح مشروع نهضوي عربي خليجي.

وفي مقدمة كتاب «اليابان والخليج: استراتيجية العلاقات والمشروع النهضوي»، تتحدث الكاتبة عن الحوافز التي جعلتها تهتم بدراسة التجربة اليابانية والتي دفعتها لزيارة اليابان ضمن وفد الشباب الخليجي الأول عام 1985، حيث حدث ما أسمته بالانبهار المعتاد بالتقنية اليابانية الرهيبة، وأصابها ذلك الإنبهار بنوع من الحسرة وذلك لحجم الفجوة الكبيرة بين دولنا العربية والخليجية على الأخص وبين ما شاهدته في جزر الأرخبيل الياباني، ومن ثم فقد إنشغلت الباحثة د. نصرة البستكي بدراسة التجربة اليابانية في سياق العلاقات العربية والخليجية، وقد اتهمت الكاتبة - في مقدمتها - كلاً من اليابان ودول الخليج بالتقصير في الآخر، فاليابان مقصرة بقدر ارتباطها الوثيق بالموقف الأميركي وابتعادها عن قضايا العالم العربي، ثم اختزالها لمنطقة الخليج في كونها مجرد بئر نفط ينبغي الحرص على مصالحها فيه دون النظر لتطلعات دول الإقليم في التنمية. ودول الخليج مقصرة ـ والعرب عموماً ـ بعدم النظر شرقاً بما فيه الكفاية، أو على الأقل بالقدر الذي لا يجعلها أسيرة للنمط الغربي والأميركي.

لكن وكما تستشرف الكاتبة المستقبل تلتقي النظرتان اليابانية والخليجية في الرغبة الأكيدة في تطوير وتعميق العلاقات البينية، فالشعب الياباني وقواه السياسية يعبرون عن رغبة دائمة في الخروج من الشرنقة الأميركية لتحتل طوكيو موقعها الجدير بها على الساحة الدولية، وكذلك فحماس النخب والشعوب العربية للأمر نفسه يمثل طوق النجاة في الفكاك من أسر الهيمنة الأميركية، التي تكيل التطلعات الراغبة في الانفتاح على العالم وبالذات التجربة اليابانية، التي لم تفقد في غمار التحديث ملامح هويتها وتقاليدها.

وكتاب «اليابان والخليج» الذي يشتمل على أربعة فصول وجداول توثيقية، أشبه بسلسلة متكاملة الحلقات كل منها يشكل مقدمة ونتيجة في آن واحد، فهي خلال فصول الكتاب ومباحثه الرئيسية، تقوم الباحثة بتحليل أبعاد عملية التنمية المستدامة وأسرارها في بلد لا يكاد يملك أي مقوم طبيعي أو جغرافي أواستراتيجي وهو الأمر الذي تطلب من الكاتبة الخوض في غمار تجربة التحديث اليابانية بحذورها التاريخية وإشكالياتها وطموحاتها، كمقدمة لا مناص عنها للتعرف على آليات وأهداف السياسة الخارجية اليابانية وقيودها وأدواتها، وكذلك قدرات اليابان العسكرية في ضوء محددات الدستور الياباني، فضلاً عن خصوصية العلاقات اليابانية الأميركية وعلاقات اليابان بمحيطها الإقليمي الآسيوي. ثم تعرج الكاتبة على دراسة آليات التقارب والتباعد بين اليابان والدول العربية والخليجية، والصورة المتبادلة بين الجانبين، ثم تعرض الكاتبة لدراسة وتحليل السياسة الخارجية اليابانية من حيث الممارسة العملية إزاء القضايا العربية المصيرية، ولاسيما قضية الصراع العربي ـ الصهيوني عبر رسم وتصميم صور إحصائية للأداء التصويتي لليابان تجاه القضايا العربية منذ 1957، وكذلك الأبعاد الاقتصادية والثقافية للسياسة اليابانية إزاء دول الخليج العربي. ومن ثم انقسم الكتاب لجزءين كبيرين: أحدهما اهتم بتأصيل ورصد ملامح المشروع الياباني التحديثي بجذوره التاريخية منذ عصر الإمبراطور ميجي (Meiji) حتى الآن. وعلى الجانب الآخر انشغلت الكاتبة في الجزء الثاني من وضع العلاقات اليابانية الخليجية والعربية في مختلف السياقات السياسية والاقتصادية والثقافية موثقة ذلك بالبيانات والاحصاءات التي تشتمل على الموقف الياباني التصويتي من القضايا العربية وخاصة قضية الصراع العربي ـ الصهيوني، بالإضافة للجداول الإحصائية التي تتعلق بحجم التبادل التجاري بين اليابان والخليج، وقد أعطت الكاتبة اهتماماً ملحوظاً للجانب الثقافي في العلاقات والذي يمثل إشكالية خاصة، لأن هذا الجانب تتوقف عليه طبيعة النظرة الاستراتيجية لكل طرف عن الآخر، ولم يغفل الكتاب الذي يصدر في هذه الآونة الدور الياباني الإستثنائي ـ بحكم الدستور - في المشاركة بقوة عسكرية في العراق، أراد لها رئيس الوزراء الياباني أن تكون قوة إعمار وإعادة بناء ونشر سلام، وأرادت لها معطيات الأمر الواقع أن تتحول إلى ظهير للقوة الغازية للعراق، ومن ثم أصبحت هدفاً للمقاومة في العراق، وهو الأمر الذي تتابعه القوى السياسية والنيابية في طوكيو بمزيد من القلق.

وينشغل الكتاب في فصوله الأربعة بمحاولة رسم إطار متكامل لمشروع نهضة خليجي يستفيد من التجربة التحديثية العملاقة لليابان، هذا الإطار لمشروع النهضة - كما ترى الكاتبة - يعتمد على ركيزتين: أولهما، تطوير البحث العلمي وتفعيل التعليم وإعتباره مشروعاً قومياً أسوة باليابان التي تخصص ما لا يقل عن 3% من ناتجها القومي للإنفاق على البحثي العلمي. أما الركيزة الثانية، فتتمثل في ضرورة التركيز على التنمية البشرية أسوة أيضاً بالنموذج الياباني، الذي حقق كل هذا النمو دون امتلاك موارد طبيعية مقارنة بدول الخليج، ومن ثم فثقافة الانتاج ضرورية للإنطلاق نحو مشروع نهضوي، فالخليج الذي تحول إلى مجرد سوق إستهلاكية لبضاعة الآخرين ينبغي أن يتحول إلى طاقة انتاجية وتصديرية، ترتبط بمشروع تنمية خليجي ومن ثم عربي تتكامل أدواته وتتعدد آلياته بما يخدم مصالحنا الاستراتيجية.

إلى جانب ذلك فمنطقة الخليج والجزيرة العربية - الآن - وكما يرى الدكتور محمد جابر الأنصاري «تمثل واجهة التعامل مع هذه القوة الآسيوية الجديدة لاعتبارات جغرافية واستراتيجية واقتصادية، وان مستقبل هذه القوة مع العرب، سيتقرر إلى حد كبير بالكيفية التي سيتفاعل بها عرب الجزيرة والخليج مع المعطيات الحضارية لهذه القوة». ومن ثم فهذه الدراسة تكمن أهميتها في اضاءة هذه المناطق المظلمة، بما يعطي الآخرين الفرصة للسير الآمن.

«اليابان والخليج: استراتيجية العلاقات والمشروع النهضوي» الدكتورة نصرة عبدالله البستكي الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004