تحالفات إسلامية ـ أوروبية على وقع الحروب

«تاريخ مسلمي صقلية» يقدم دليلا وثائقيا عن تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا

TT

أصدرت لجنة الترجمة بالمعهد الثقافي الايطالي حديثا بالقاهرة الترجمة العربية لكتاب «تاريخ مسلمي صقلية» تأليف الأديب الايطالي ميكيلي آماري وكان قد أصدره في عام 1852. ويأتي صدور الترجمة العربية في القاهرة بمناسبة مرور ثمانين عاما على اقرار العلاقات الدبلوماسية بين مصر وايطاليا، وضمن فعاليات عام الصداقة المصرية ـ الايطالية 2004/2003، وقد تمت الترجمة باشراف المترجم المصري محب ابراهيم.

ويعتبر كتاب «تاريخ مسلمي صقلية» دليلا وثائقيا، قام وزير الشؤون الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني باهدائه لمكتبة الاسكندرية. ويشير الكتاب الى تاريخ التحالفات التي جرت خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وكان أمراء الفرنجة يفكرون في التحالف مع المسلمين ضد الامبراطورية البيزنطية ذات الديانة المسيحية أيضا.

ويرصد الكتاب تفاصيل علاقة الامبراطور الفرنجي كارلو شارل مان وإرساله سفراءه الى بغداد زمن هارون الرشيد ليحصل منه على تأكيدات بصداقته، كما أرسل له فيلا هدية، ويشير أيضا الى رسالة الماركيزة برتا التوسكانية ابنة الامبراطور لوتاريو الثاني التي بعث بها الى الخليفة العباسي المقتفي تعرض عليه الزواج، وكانت كل هذه الاتصالات بهدف عقد تحالف مع المسلمين ضد البيزنطيين وقد قامت بعد ذلك وأثناء الحروب الصليبية وحروب شبه جزيرة ايبريا الكثير من التحالفات بين المسلمين والفرنجة ضد تحالفات أخرى بين فرنجة ومسلمين آخرين.

ويحاول مؤلف الكتاب ميكيلي آماري عبر هذه الأحداث وغيرها توضيح الصداقة العميقة والمستمرة التي كانت تربط بين العالم المسيحي الغربي والعالم الاسلامي على الرغم من الحروب المتوالية وأعمال القرصنة بين الجانبين.

ويذكر المؤلف عبر فصول كتابه أنه رغم أن المسلمين والمسيحيين تحاربوا كثيرا ونشر كل منهم الأكاذيب عن الآخر، إلا ان ثلاثة عشر قرنا ميلاديا بين أوروبا والدولة الاسلامية تميزت بعلاقات مستمرة وطيبة في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلمية والدبلوماسية، وقد استطاعت أوروبا بفضل المسلمين فيما بين القرنين الثالث والعاشر أن تكون على اتصال بمنجزات الاغريق الفلسفية والعلمية والمستحدثات العلمية التي وصلت من فارس والهند والصين، وهكذا أخذ الغرب عن المسلمين علوم الجبر والفلك والطب والكيمياء.

ويدحض المؤلف الرأي الشائع الذي يشير الى غلبة الصراع بين أوروبا والاسلام في أثناء تلك القرون، ويشير الى ان ذلك الشيوع نتيجة لوجود حالة من التزمت ومحدودية الثقافة لدى القائلين به.

واستعرض المؤلف رحلة أوروبا التي بدأت مبكرا لدراسة العالم الاسلامي وكيف تمت ترجمة معاني القرآن في طليطلة التي استعادها المسيحيون منتصف القرن الثاني عشر، وكان هذا بداية ظهور مدارس أوروبية في الاستشراق والدراسات الاسلامية وبداية حركة التنوير في القرن الثامن عشر وظهور ديوان الغرب والشرق لغوته.

وأشار آماري الى ميل أوروبي يتسم بالإعجاب بسحر الامبراطورية التركية والتي تكونت بعد استيلاء محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1453، وقد ظهر العالم الاسلامي مع بداية القرن الثامن عشر بالنسبة للأوروبيين أقل عداءً وأكثر سحرا من ذي قبل، وظهرت صورة جديدة لصلاح الدين تتغنى باعتداله وحكمته بديلا عن صورة العصور الوسطى التي عبر عنها دانتي وبوكاتشو التي تتخذه نموذجا للنبل والفروسية، وقد جعله جوتهلد افرايم مثالا للتسامح.

وتتبع المؤلف تاريخ ايطاليا وأشار الى انه يتسم باختلافات اقليمية عميقة، فلكل منطقة جغرافية من مناطق شبه الجزيرة تاريخها وطريقتها الخاصة (لهجتها) في التحدث باللغة الايطالية، وللجزر الايطالية الكبيرة بوجه خاص وهي صقلية وسردينيا وكورسيكا، وقال انه تاريخ شديد الخصوصية، تأثر فيما بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر بظاهرة التوسع الاسلامي في البحر المتوسط، فقد استوطن هذه الجزر مرات متعددة عرب وسكان مقبلون من شمال افريقيا وخاصة من المغرب ومن شمال جزيرة ايبريا، وهذا يخص بالأكثر صقلية التي فتحها العرب ـ المغاربة ـ فيما بين القرن التاسع والحادي عشر فخضعت لحكم الأغالبة والكلبيين، وصارت إمارة مقرها باليرمو ثم حدث لها ما حدث في شبه جزيرة ايبريا فتفتتت الى دويلات مستقلة عديدة كثيرا ما اشتعلت الصراعات بينها، وقد أدى هذا في نهاية القرن الحادي عشر الى قيام حفنة من المحاربين والمغامرين المقبلين من شمال فرنسا، وهم النورمان، بالاستيلاء على صقلية وتوحيدها مع الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الايطالية في مملكة واحدة (اطلق عليها في البداية مملكة صقلية ثم اطلق عليها فيما بعد مملكة نابولي) توالت عليها أسر مالكة مختلفة قبل ان تصبح في سنة 1860 ـ1861 جزءا من مملكة ايطاليا المتحدة تحت حكم أسرة سافويا.

وتحدث المؤلف عن مشاركة العلماء والمثقفين الايطاليين في القرن التاسع عشر في بناء الدولة الايطالية المتحدة، باعتبار انها نتيجة طبيعية وحتمية لوحدة الأمة الايطالية، ولكن هذا كان يمثل مشكلة تاريخية وانثروبولوجية، فاذا نحينا جانبا اللغة الايطالية، وهي لغة مشتركة بين جميع سكان شبه الجزيرة على الرغم من الاختلافات الكثيرة والعميقة بين لهجاتها، هل كانت توجد حقيقة وحدة قومية بين أناس خضعوا على مر القرون لغزوات أجنبية كثيرة؟ أم أن الأمة الايطالية كانت نتيجة لانصهار شعوب وعادات مختلفة؟ وذكر انه ظهر في جزيرة صقلية التي اتحدت منذ القرن الثاني عشر في مملكة واحدة مع الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الايطالية، وهي صاحبة خصائص تاريخية وانثروبولوجية وثقافية خاصة ضاربة في التاريخ، ظهر منذ بداية القرن التاسع عشر تيار سياسي وثقافي ذو خصائص قوية وهو «التيار الصقلي».

ويوضح الكتاب ان أتباع «التيار الصقلي» كانوا مؤيدين لحرية ايطاليا ويشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من الأمة الايطالية، إلا أنهم لم يكونوا على استعداد للبقاء خاضعين لدولة البوربون التي ظلت تحكمهم منذ القرن الثامن عشر وأجبرتهم على البقاء في مملكة واحدة مع جنوب ايطاليا.